حوار هادئ بين الجد والهزل
تـركـمـان العـراق... والطامعـون في اللبن الاسود (*) - القسم الاول
حبيب هورموزلو
يحلو لي انا وصديقي العزيز عبدالله ان نتمازح بيننا بين الفينة والفينة. وقد يشتد اوار المزاح حتى يبدو كأن الشجار قد شب بين هذين الصديقين الجارين. ولكننا نعود بعد دقائق لنتسامر ونتلاطف وكأن شيئا لم يحدث بيننا ابدا. ولا عجب في ذلك , الم اقل اننا صديقان حميمان ويحب احدنا الاخر كما يحب الاخ اخاه...
والغريب ان اكثر ما نتمازح به يدور حول نقطة واحدة وهي حياتنا اين قضيناها وبين من عشناها , وايِ منا اكثر جيرانا وأهلا واقارب. فتراني اقول له مرة:
ــ يا " عولا " , اين اكملت دراستك الابتدائية؟ فيرد علي صديقي بشئ من الغضب:
ــ ألم أقل لك ان اسمي " عبدالله" , فلماذا تنادينني بـ "عولا"؟ هل انك تنسى الأسامي يا "ياوز"؟
ــ وأنت يا " عولا " , عفوا يا " عبدالله "؟ أنت ايضا تنسى ان اسمي ليس " ياوز " بل انه " ياووز ". ردده معي: ياوووز!
ــ حسنا حسنا يا " ياوووز "!
ــ هذا شئ طبيعي يا عبدالله وليس فيه ما يغيض. انه اسم التصغير او اسم الدلع كما يقال! نحن ايضا نستعمل ذلك فنقول لمن اسمه محمد مثلا: " ممد " حتى ان الاتراك يطلقون على الجندي لقب " ممدجيك " ومعناه محمد الصغير , تيمنا باسم النبي الكريم محمد (ص). لنعد الى موضوعنا.
ــ لنعد يا صديقي. ترى اين ولدت انت؟
ــ اني ولدت هناك في بلد تفوح من كل بقعة منه رائحة النفط والغاز ويدعونه احيانا بلد " الذهب الاسود " وياليته كان اسود فقط وليس ذهبا ابدا. فهو السبب في تشريدي من بلدي. هو السبب في جعل حظي اسودا تماما. ماذا كنت اقول يا هذا؟ نعم... اني ولدت وترعرعت واكملت الثانوية هاك ايضا. وانت؟
ـ انا ولدت وترعرعت في سفوح الجبال الشاهقة بين رائحة الاشجار والزهور الطيبة , فليس في بلدي ذهب اسود ولا حتى " تنك اسود " انه يبعد عن بلدك اكثر من مائة كيلومترا بقليل. انه بلد " المن والسلوى ". أتعرف ما هو " المن "؟ اننا ندعوه " كزوه ".
ـ عجيب أمرك يا " عولا " عفوا يا " عبدالله ". لماذا تقول اذا ان بلدي هو قلبك وقلب قومك وشعبك؟!
ـ لأنه فعلا هو قلبي وقلب شعبي. فان كل جيراني واقاربي عاشوا هناك منذ الآف السنين. اما انت ورهطك فانك طارئ علينا. ان جذوري راسخة هناك اما انت واقاربك فانتم " قلة " من الناس جاؤوا ضيوفا علينا في غفلة من الزمن!
ـ هذا ليس قولك يا عبدالله , انك اقتبسته من اقوال جد "مقدام " اتعرف من هو.. انه" هولاكو بغداد "!
ـ حسنا انا اعترف بذلك , ولكنه حقيقة رغم ذلك.
ويشب العراك بيننا فأرد عليه بعنف:
ـ ان انت اصررت على قولك فسأفقأ عينك اليمنى!
ـ وانا سأفقأ عينيك معا.. اليمنى اولا ثم اتلوه باليسرى , واحرمك بذلك من رؤية صديقك العزيز
" عبدالله "!
ويصفى الجو بيننا بعد هذه الالتفاتة الجميلة من " عبدالله " ونعود الى الحوار الهادئ , ولكنه كما كان دائما " حوار بين الجد والهزل "...
أبدأ انا بالحوار لأني في هذا السجال " مدافع " وهو " مهاجم ". فأقول له:
ـ لماذا تهاجمني دوما؟
ـ انها واحدة بواحدة.
ـ ولكن " البادئ اظلم " يا عبدالله!
ـ حسنا , لقد فزت بكلامك المنمق يا طويل اللسان!
ـ هل لك ان تقلب صفحات التاريخ القريب والبعيد لتأخذ منها بعض العبر يا عبدالله؟ ان انت فعلت هذا يا صاحبي ستجد ان قومي واجدادي أسسوا في هذه البقعة من وطننا المشترك دولا وامارات كثيرة وكثيرة وحكموها وأداروها مئات ومئات من السنين الطوال. هل ترغب ان اتحدث لك عنها يا صديق العمر؟
ـ لا حاجة لي بها ولااريد ان اتذكرها ولو لحظة.
ـ ولكن مع ذلك ـ ورغما عنك ـ سأردد لك اسماء بعض هذه الامارات والتي اما ان كان مركز حكمها في مدينتي او ان نفوذها وحكمها شمل مدينتي وسأذكر منها ما تأسست قبل بداية حكم الدولة العثمانية للمنطقة في ١٥١٦ م: امارة اتابكية الموصل (١١٢٧ ـ ١٢٣٣ م) , امارة اتابكية اربيل (١١٤٤ ـ ١٢٠٩ م) , الامارة التركمانية في كركوك (١٢٣٠ م) , الدولة السلجوقية (١١١٨ ـ ١١٩٤ م) , دولة القره قويونلو (١٤١١ ـ ١٤٧٠ م) , دولة آق قويونلو (١٤٧٠ ـ ١٥٠٨ م).
ـ لنعد الى مدينتي الجميلة يا عبدالله , مدينة الذهب الذي هو " أسود " لسوء الحظ. هل تستطيع ان تعدد لي اسماءالمحلات التي يسكنها او كان يسكنها اقاربك في بلدي لنرى هل هم الاكثرية فعلا في بلدي حسب مقولتك؟
ـ طبعا طبعا. اذكر منها محلات: امام قاسم , شوررجة , رحيم آوا , آزادي , قرمزي كليسة , إسكان.
ـ لا تقل " اذكر منها " , فانك لن تستطيع ان تضيف اليها اسم محلة واحدة اخرى. ثم ان جل ما ذكرته هي اسماء لمحلات ومناطق سكنية استحدثت بعد الخمسينات من القرن الماضي وتكونت بفعل الهجرة من القرى الى المدن. اما انا فساسرد لك اسماء محلات اقاربي واجدادي الذين عاشوا فيها مئات السنين. وسترى ان كل واحدة منها تحوي من النفوس ما يعادل نفوس جميع المحلات التي ذكرتها انت. فاسمع اذا اسماء هذه المحلات:
بكلر , صاري كهية, شاطرلو, جريت ميداني , إمام عباس, كاوور باغي , مصلى, جقور, امام قاسم , أخي حسين , بريادي , جاي , قصابخانه , يدي قزلر , حمام , أغالق , ميدان , التونجيلا , تسعين ’ حلوه جيلر.
ـ هل لاحظت شيئا في اسماء هذه المحلات كما الاحظه انا الان يا عبدالله؟ ان جميع هذه الاسماء هي بلغة قومي واجدادي! بل وحتى اسماء محلات شورجة وقرمزي كليسة تنطقها انت الان بلغة اهلي واجدادي. فالشورجة تعني (الارض المالحة) , وقرمزي كليسة تعني (الكنيسة الحمراء). وانت تعرف ان جل المحلات الاخرى الواردة على لسانك هي مناطق سكنية استحدثت بعد قيام الجمهورية ونتيجة للظروف والاحداث السياسية انذاك. والآن هل لك كلام تقوله في هذا؟
وما دمنا نتكلم عن الاحياء من اهل بلدي وعن مناطق سكناهم , وما دمنا نذكر اسماء (محلات) بلدي يا عبدالله , فهل ترغب ان نلقي نظرة على هوية من يسكنون فعلا في هذه المحلات , اعني العوائل المشهورة التي يسكن افراد كل منها عادة في محلة معينة من البلد؟ ساذكر لك بعضا من اسماء العوائل الكبيرة التي هي من اهلي واقاربي وقومي واعتقد انك تعرف او انك سمعت على الاقل عن واحد او اكثر من كل عائلة من تلك العواءل:
نفطجي , كدك , صالحي , هرمزلي , يعقوبي ,آوجي , جلالي , قيردار , قصابلار , بيراقدار , علمدار , باصوان , كوله من , ترزي باشي , بياتلي , قوجاق , تكريتلي , بازركان , ساعتجي , صقاللي , كوزه جي , نائب , قاضي , صاري كهيه , صابونجي , قاياجي , آق قويونلي , كوبريلي , أوجشلي , دميرجي , صمانجي , كتانه , جلبي , بال ييمه ز , ديزدار , يوزي كولمز. وتابعت كلامي قائلا:
ـ حسنا يا عبدالله! هـذه هي محلات بلدي وهـؤلاء هم العوائل التي تسكنها. فهل تعرف شيئا عن اين " يسكن " الاموات مني؟ اعني هل تعرف شيئا عن مقابر بلدي؟ هناك مقبرتان رئيسيتان في بلدي ’ كل واحدة منهما مخصصة منذ مئات السنين لموتى احد صوبي المدينةالتي تتألف من " صوبين " يفصل بينهما نهر تتدفق فيه المياه في مواسم الشتاء ويغدو في الصيف وكأنه واد ملئ بالحجارة التي يتقاذف بها الصبيان بعضهم بعضا. في الصوب القديم هناك مقبرة " المصلى ". اما في الصوب الجديد فهناك عدة مقابر اهمها واكبرها مقبرة " أحمد أغا " التي تضم في قسم منها " مقبرة شهداء التركمان ". هل تعرف منشأ هذين الاسمين يا صاحبي؟
ـ كلا. وأنى لي ان اعرف ذلك وانا لم ازر ايا منهما ابدا وليس في اي منهما قبر لأي من أجدادي او معارفي؟
ـ رويدك يا عبدالله ’ هذا اعتراف جميل منك. ان مقبرة المصلى تحمل نفس اسم محلة المصلى التي هي اكبر واقدم محلات الصوب القديم التي يسكنها اهلي واجدادي منذ القديم وسميت بـ " المصلى " لوجود مكان الصلاة على الجنائز في تلك المنطقة على ما يقال. اما مقبرة " احمد اغا " فانها سميت باسم احد الصناديد من قومي الذين قاوموا الاستعمار الانجليزي ووقفوا كالصخرة الصلدة امام جبروتهم
وجبروت جلاوزتهم. انه (احمد اغا) الذي كانت له مقهى عند التقاء الشارع الرئيسي بسوق الصوب الحديث في مدينتي. وكانت المقهى تسمى باسمه اي " مقهى احمد اغا " وعلى بعد بضعة مئات من الامتار توجد مقبرة الصوب الحديث وكانت تسمى قديما " مقبرة عبدي بك ". وفي اواخر الاربعينات من القرن الماضي قام هذا الرجل
ـ اثر وفاة ابنه الشاب ودفنه هناك ـ قام بتسوير المقبرة وفتح شوارع فيها وتشجيرها بمختلف الاشجار واستخدم لها الحرس والمنظفين والفلاحين وبنى في جزء منها مسجدا صغيرا وكل ذلك على نفقته الخاصة.أتعلم يا عبدالله ان شهداء مجزرة عام ١٩٥٩ الرهيبة يرقدون في بقعة طيبة في مقبرة احمد اغا هذه وان البقعة سميت منذ ذلك اليوم المشؤوم بـ " مقبرة الشهداء "؟ وان هناك مقابر عديدة اخرى في مختلف انحاء بلدي يرقد فيها اجداد اهلي واقاربي وابناء مدينتي مثل مقبرة نفطجي ومقبرة تعليم تبه ومقبرة امام احمد وغيرها؟
ـ وماذا في ذلك. لماذا تذكر لي اسماء مقابر المدينة؟
ـ اقول لك هل يوجد شخص واحد من اهلك واقاربك مات ودفن في احدى هذه المقابر؟ أليس وجود الاموات دليلا على وجود الاحياء؟ اليست كثرة القبور دليلا على كثرة الأهل والاقارب وقاك الله وحفظك يا صديقي؟
وبعد ان يرتشف " عبدالله " آخر رشفة من قدح الشاي الموضوع امامه يبادرني بالجدال:
- حسنا" لننتقل الى موضوع آخر. سأتطرق الى حقيقة تفحمك افحاما"... اليس رؤساء البلديات يعيّنون من أهل البلد ذاته؟ ان جميع رؤساء البلديات في هذه المدينة الجميلة كانوا من أهلي و أقاربي وليس من أهلك من تولّى هذا المنصب الا النادر الذي لا يقاس عليه. فماذا تقول في هذا ياأخي العزيز؟
- هل أنت متأكد من هذا الكلام يا عبدالله؟
- أنا لا اقول ذلك وحدي و انما أنقله من كتاب لواحد من أقاربي عالم بهذه الأمور فضلا" عن أنه يحمل شهادة الدكتوراه من أرقى الجامعات.
- عرفت من تقصده يا عزيزي يا عبدالله. انني لم أطّلع و للاسف على كتاب هذا "الباحث" للان ولكني قرأت ترجمة لبعض فقرات من كتابه. وليته كان منصفا" وعلميا" وموضوعيا" فيما كتبه يا عبدالله. انه يقول ان العثمانيين كانوا يعطون المناصب الحساسة كرئاسة البلدية الى القومية ذات الأكثرية في المدينة وان نفس الطريقة أتّبعت بعد قيام دولة العراق. وانا اشاركه في هذه المقولة ولكني اقول ايضا" ان كلامه حجّة عليه وليس له. انه ذكر أسماء اثنين من رؤساء البلديات وهما من أهلك واقاربك ولم يستطع أن يضيف عليهما اسما" ثالثا"! وذكر اسم اثنين من رؤساء البلديات ممن هو من أهلي واقاربي وسكت عمن سواهما لانه لو كان قد ذكر باقي الاسماء لكان تناقضه في كلامه يظهر بيّنا" وجليّا". ولذا فقد سكت عن سواهما كسكوت شهرزاد عن الكلام (غير المباح) عندما ادركها الصباح!
وسأتولى يا عبدالله اتمام كلام صاحبك بدلا عنه فأقول ان الأكثرية الساحقة من رؤساء البلديات حتى الثمانينات من القرن الماضي – وهو تاريخ ليس بالبعيد – هم من أهلي واقاربي امثال: مجيد يعقوبي وباقي اغا وعبدالرحمن بريادي وصادق صراف وشامل اليعقوبي ونورالدين الواعظ وحسام الدين الصالحي ومظهر بك التكريتي وناظم الصالحي وابراهيم محمد. اما بعد الثمانينات وبعد تهجير أهل الجنوب الى مدينتي وتهجير أهل مدينتي من مدينتي , فلم يسمح لأيّ مني أو منك ليكون رئيسا" لبلدية بلدي!ألا ترى اذا" يا عبدالله انك استعنت بكاتب هو منك فاصطدمت بعدم موضوعيته ونكرانه للحقائق! انك اردته ان يكون (نورا) ينير الطريق لكل (طالب) للمعرفة ولم تدرك انك حفرت حفرة فوقعت فيها!
وبعد لحظات من السكون والهدوء أتخذت انا موضع الهجوم فبدأت بالكلام:
- ارى انك اطلقت سهما" فرددتُه اليك. أتريد ان أكيل لك الصاع صاعين؟
- ماذا في جعبتك من اعاجيب هذه المرة يا (وووز)؟!
- اتوافقني يا عبدالله ان الصحافة هي مرآة الشعوب وانها تعكس آمالها وأمانيّها وتلقي الضوء على احداثها وعلى ثقافتها وآدابها وتاريخها وانها لو صدرت بلغة هي غير لغة جماعةٍ ما لما وجدت لها القرّاء الذين عمدة الصحف ومصدر دوامها ومنبع الهامها؟.
- أوافقك على هذا الكلام المنّمق ايها الأديب اللوذعي!
- حسنا". كلنا يعلم ان سلطات الاحتلال الانجليزي اصدرت في بلدي منذ الاشهر الاولى من احتلالها البغيض في اواخر الحرب العالمية الأولى , اصدرت صحيفة تخدم أغراضها وأسموها (النجمة) وان (النجمة) هذه اصدرت عددا" واحدا" فقط باللغة العربية ثم رأى الانجليز ان كل اهالي المدينة هم من أهلي واقاربي أنا فأبدلوا اسم الصحيفة الى (نجمة) وبدأوا بأصدارها بلغة أهلي وبلدي. ثم انتقلت ملكية هذه الصحيفة الى بلدية مدينتي واعطت البلدية للصحيفة اسما" هو اسم المدينة ذاتها وانها استمرت بالصدور على هذا المنوال حتى السبعينات من القرن الماضي. والان...لماذا استمرت رئاسة البلدية على اصدار هذه الصحيفة بلغة أهل بلدي؟ هل لأن أهل تلك اللغة هم أقلية كما تدعي انت وكما يدعي صاحبك الذي يحمل شهادة الدكتوراه؟! هل هذا الكلام يقبله العقل والمنطق السّوي يا عبدالله؟ خمسون سنة من عمر الزمن والصحيفة بما من مقالات وأخبار وأشعار واعلانات رسمية وبما فيها اعلانات المحاكم ودوائر التسجيل العقاري التي كانت تسمى دوائر الطابو, تصدر بلغة الأقلية الضئيلة في ذلك البلد! هل هذا منطق سليم يا عبدالله؟ خمسون سنة كان فيها رجل فاضل ذو منزلة كبيرة بين أهله وعشيرته رئيسا لبلدية هذه المدينة ولمدة تناهز خمسة عشر عاما وهو الشيخ حبيب الطالباني رحمه الله الرجل الفاضل الاريب رئيس عشيرة الطالبانية التي تسكن القرى المجاورة لتلك المدينة – تلك الرئاسة التي كانت سببا ووسيلة لتعيينه لمنصب رئاسة البلدية.
أتعلم يا عبدالله ان البلدية استمرت على اصدار تلك الصحيفة بلغة أهل بلدي حتى في تلك الحقبة من الزمن التي كان فيها الشيخ الطالباني رئيسا للبلدية؟ ولو كان الأمر كما تقول وتدّعي الم يكن من المنطقي ان يغيّر لغة صحيفة تصدرها البلدية لتصدر بلغة (اكثرية) اهل البلد او حتى ان يضيف اليها بعض الصفحات او حتى بعض الاخبار بلغته هو؟ ان هذا الرجل الطيب الذكر كان منطقيا مع نفسه وعارفا بتركيبة المدينة القومية فلم يعـمـد الى شئ من ذلك ابدا لئلا يناقض نفسه ولئلا يخلق أزمة بين البلدية وبين أهل البلد. أتعلم يا عبدالله ان هذه الصحيفة استمرت على الصدور بلغة بلدي حتى في عهد رئيس البلدية الطالباني الثاني الذي كان يسمى (كوجوك فاضل) نسبة الى قريبه المحامي الشيخ فاضل الطالباني الذي كان اكبر منه سنا" وكان يسمى (بيوك فاضل)!.
قـلنا يا عـبـدالله ان الصحافـة هي مرآة اهل البلد- أيُّ بلد- اذا سأسـرد لـك بعـضـا من اسـماء الصحـف والمجلات التي صدرت في بلدي وبلغة اهل بلدي لتقارن الأمر في نفسك بين ما تقوله وبين ما أنا اقوله: حوادث (١٩١١م), معارف (١٩١٣م), كوكب معارف (١٩١٦م), نجمة (١٩١٨م), كركوك (١٩٢٦م), تجدد (١٩٢٠م), ايلري (١٩٣٥م), الافاق (١٩٥٤م), البشير (١٩٥٨م).
- هل تستطيع يا عبدالله ان تذكر لي اسم صحيفة واحدة صدرت في بلدي وبلغة أهلك واقاربك او بالأحرى بلغتك انت؟ هيا اشحذ ذهنك وعـُد الى الماضي القريب والبعيد لتتذكر ولو اسم صحيفة واحدة يا عبدالله! فيهمهم عبدالله ويغمغم ولكنه لا يقول شيئا". واستمر أنا في كلامي لأقول:
- ان الغناء والموسيقى تعبير صادق عن احاسيس الشعوب و عن خلجات قلوبهم. والمعتاد يا عزيزي يا عبدالله ان ينشد كل مغنٍ اغانيه بلغته ليعنون احاسيسه الى أهل بلده بلغتهم. وقد أخرج بلدي عشرات وعشرات من المغنين والمطربين الذين شنّفوا أسماعنا واسماع من قبلنا بالبستات والغزل والخوريات باصوات هي كصوت العندليب او أرقّ وأحلى.
ويسرني ان أذكر لك في هذا المجال أسماء بعض مغنينا القدامى منهم والجدد: عثمان تبلة باش, رشيد كوله رضا, مصطفى قالايي , موللا ولي , شلتاغ , موجولا, مال الله , مولا طه, شريف, محاو, صالح حوالا, محمد جولبوين , علي مردان, صديق بندة غفور, عبد الواحد كوزه جي اوغلو, عبد الرحمن قزل آي, عزالدين نعمت, كريم كوله من , السيدة كركوك قزي, فخرالدين اركيج, اكرم طوزلو, اربيللي حيدر, فائق بزركان , فائق نجار, صما بربر , محمد احمد اربيللي, علي قلعه لي, تحسين كركوك اوغلو, سامي جلال وغيرهم وغيرهم.
ان عددا" غير قليل من فنانينا القدامى ممن ذكرت اسماء بعضهم أوجدوا مقامات جديدة ليضيفوا بذلك جديدا" الى التراث الثقافي والفني للعراق عامة. وان للكثيرين ممن ذكرتهم تسجيلات واسطوانات وشاركوا في مئات من الحفلات الغنائية سواء في بلدي او في العاصمة وغيرها من المدن واذيعت اغانيهم ولاتزال من المذياع والتلفزيون الرسمي العائد للدولة. والان يا عبدالله هل تستطيع ان تذكر لي اسم مغـنٍ واحد من اهلك ولد في بلدي او سكن فيه أو غنى في أي تجمّعٍ فيه؟ هيا يا عبدالله اشحذ ذهنك قليلا" لتذكر لي ولو اسما" واحدا" في مقابل هذه القائمة الطويلة من اسماء اللوامع من أهل الفن والطرب؟
- حسنا" حسنا", انكم بارعون في الغناء. ولكن لاتنس اللوامع من المغنين الذين ينشدون ارقّ الاغاني في سفوح الجبال ببلدي.
ثم يتشعّب الحديث بيننا ونعود إلى تذكّر احداث عشناها في الماضي ويخطر ببالي ان أسأل صديقي هذا السؤال فأتوجّه به اليه:
- هل تذكر يا عبدالله التسجيل العام للنفوس في العراق الذي جرى عام ١٩٥٧ والذي كان اهم عملية تسجيل عام واكثرها مصداقية قياسا" بما تم بعدها؟ هل تذكر اين تم تسجيلك آنذاك يا فلان؟
- أذكر ذلك بالطبع يا علان! كان ذلك في ايام شبابنا وتم تسجيلي في بلدي الذي يقع على سفوح الجبال الشاهقة.
- ان الدولة أولت اهتماما" كبيرا لتلك العملية وجهّزت لها جيشا من المسجّلين والعـدّادين وارسلت الى المدن والقرى والقصبات مئات من المكلفين بشرح عملية التسجيل العام للنفوس ووجوب الاشتراك فيها وعدم التنصّل منها. وطبعت مديرية الاحوال المدنية – التي كانت تسمى مديرية النفوس العامة آنذاك – آلاف النسخ من منشور يشرح اهمية المساهمة في عملية التعداد, ووزعتها في كافة أنحاء البلاد وكان المنشور الموزّع في بلدي وما يجاوره من مناطق محررا بلغتك انت. هل تذكر ذلك؟
- هذا شئ طبيعي والا فكيف يفهم الناس ما هو محرر بغير لغتهم الأم. وما دام المنشور وزّع في بلدك وبلدي بلغتي انا, فذلك إقرار وتأييد من الدولة بأن أهلي هم الأكثرية حتى في بلدك يا فلان!
- رويدك يا علان فأنت رجل طيب القلب حقا وها قد وقعت في الفخ الذي نصبته لك بكل سهولة.
- أي فخٍ تعـنيه يا صاحبي؟
- اقول ان عكس ما اوردته انت هو الصحيح! فالذي وقع فعلا أن عشرات الالوف من المناشير التي وزعتها الحكومة في بلدي وفي الأقضية والنواحي والقرى التابعة لبلدي حررت وطبعت بلغتي انا وكان نصها بالحرف الواحد كما يلي:
(عراق دولتي – شؤون اجتماعية وزارتي - نفوس عموم مديرلغي ١٩٥٧ سنه سى عمومي نفوس صايمي صايين وطنداش. تسجيل ايشنه اشتراك ايتمه ك يكي و مسعود بر حياتك تاسسنده تمل صاييلير).
وهذه ترجمة عربية لهذا النص يا عبدالله وهو موجود ومنشور في عديد من الكتب والاصدارات. وأدرج الترجمة ليفهم من لا يعرف هذه اللغة ما جاء في أصل المنشور:
(دولة العراق – وزارة الشؤون الاجتماعية – مديرية النفوس العامة – تسجيل النفوس لعام ١٩٥٧. ايها المواطن الكريم ان مساهمتك في عملية التسجيل العام يعتبر اساسا" لتأمين حياة جديدة و سعيدة لك).
- هل من المعقول يا صديقي ان تطبع الحكومة عشرات الالوف من المناشير لتوزعها بالايدي وبالسيارات وحتى بالقائها من الطائرات, وان تكون تلك المناشير مكتوبة بلغة "الأقلية الضئيلة" في تلك المنطقة كما تدعي انت وكما يدعي اصحابك!. أليس ذلك من قبيل الاشتغال بالعبث. لا تغضب عندما اقـول لـك: قليل من الانصـاف والموضـوعـيـة يا صاحـبي. وقليل من الانصاف كذلك الى قريبك الذي هو (نور) لكل (طالب) كما يدعي وكما تدعي انت. الا يكفي ما اعانيه من حملة تذويب القومية التي غدت سياسة الدولة الرسمية منذ عقد من الزمن لتأتي انت و تحاول ان تزحزحني من بلدي؟ يا عبدالله , هل تريد ادلة دامغة اخرى على ان بلدي هو بلدي فعلا؟ الواقع اني اتصور نفسي جالسا على بساط يتجاذبني فيه طرفان, كل يمسك بطرف من البساط ويريد ان يجذبه نحوه ويرميني من اعلى البساط. كلاكما له نفس الهدف.
- من هما هذان الطرفان ياترى؟
- انهما "هولاكو بغداد" من جهة و "الطامعون في اللبن الاسود" من جهة اخرى! اتعلم ان المشكلة في انفك يا عبدالله؟
- وما علاقة انفي بالموضوع؟
- ان لأنفك قابلية عجيبة... انه يشم رائحة "ثمينة" تأتي اليك من مسافة مائة كيلو متر او يزيد. انها رائحة "الذهب الاسود" كما يسمونه و رائحة "اللبن الاسود" كما اسميه انا!
- عجيب امرك ياهذا. هل كان اللبن اسودا" في اي يوم من الايام يا صاحبي؟
- نعم... لانها لبن (النعجة السوداء) يا صديقي. انك ظالم فعلا لأنك طامع في نعجتي!
- لقد ازددت غموضا". ألا توضح ما ترمي اليه يا هذا؟
- حسنا". اتذكر قصة الخصمين اللذين دخلا على النبي داود عليه السلام والتي يرويها القرآن الكريم في سورة (ص)؟ اذ قال احدهما لداود: (خصمان بغى بعضنا علي بعض فأحكم بيننا بالحق و لا تشطط و اهدنا الى سواء الصراط) ثم سرد شكواه من صاحبه: (ان هذا اخي له تسع و تسعون نعجة ولي نعجة واحدة..) واضاف ان صاحبه يريد ان يستولي على نعجته الوحيدة رغم كثرة نعاجه. فاصدر داود عليه السلام حكمه العادل والصريح ودمغ كل ما يريد ان يستولي على حقوق واملاك غيره بالظلم:
(لقد ظلمك بسؤالي نعجتك الى نعاجه وان كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض)
السر اذا" في هذه النعجة التي تريد ان تضمها الى نعاجك يا عبدالله لانها تدرّ لبنا ثمينا , لبنا أسودا كما اسميه انا و ذهبا أسودا كما يسميه سائر الناس. انك طامع في اللبن الغالي الذي تدره النعجة هذه فهو (اللبن الأسود) الذي يجعل الجميع يهرعون وراءه لتلقفه وتملكه والذي تشم انت واقاربك رائحته من بعد, فتدّعون ان بلد النعجة السوداء هو بلدكم وقلب بلدكم لحاجة في نفس يعقوب (بالتعبير القرآني)!
ان شأن أهـلك واقاربـك يا عـبدالله هو شـأن "هـولاكـو بغـداد" الذي يخاف على "اللبن الأسود" فيطرد و يشرد أهل البلد الذي يدرّ "اللبن الأسود" و يأتي بآلاف من "الهولاكوات" الصغار من جنوب البلاد ليسكنهم هناك. والفرق الوحيد بينكما ان أهلك واقاربك يقولون لأهل بلد "اللبن الأسود" انكم أقلية ضئيلة في قلب بلدنا ولكم ان تسكنوا فيه بشرط ان استحوذ على كل قطرة من هذا اللبن الأسود. والآن, كيف يأمن أهل البلد ان لا يكون شأنكم هو نفس شأن "هولاكو بغداد" اذا" ما استتب لكم الأمر كما يهفو اليه فؤادكم؟
- المهم ان نضع يدا" في يد لنقاوم "هولاكو بغداد" يا صديقي.
- كيف تريد مني ان اضع يدي في يدك وانت تطعنني من الخلف ونحن لازلنا في بداية الطريق؟ نعم.. في الوقت الذي يجب ان نضع فيه يدا" بيد لنقاوم الدكتاتورية والظلم وسياسة التذويب القومي وندافع عن الحقوق الديمقراطية لأهل البلاد كله وان نتعاون في ذلك مع اخينا الاكبر ومن يمثلون اخانا الاكبر, اجدك تطعنني من الخلف يا صاحبي, والغريب انك كنت سابقا تخفي خنجرك وراء ظهرك اما الآن فانت تجاهر بما كنت تتمارى فيه. اني اكاد احس وقع نصل خنجرك بين ضلوعي و اراك كالفراشة التي تحوم حول النار والتاريخ ملئ بانباء الفراشات التي كانت تحوم حول النار الأزلية التي لا تخبو شعلتها في بلدي. انك اذا اصررت يا صديقي على وضع "عينك" على بلدي واذا اصررت على وصفي بأني "أقلية ضئيلة", فانك ستخلق لنفسك اعداء في وقت انت في امسّ الحاجة فيه الى "أصدقاء". ان منطق "الأقلية الضئيلة...
- أقلية لا بأس بها".
- لقد خطونا الآن خطوة الى الامام وتم "ترفيعنا" درجة من قبلك فيالحسن حظنا, يالحسن حظنا!
- ان هذه سخرية منك, كيف يسخر الاخ من اخيه.
- اننا اخوة و اشقاء فعلا يا صاحبي وعشنا مئات بل آلاف السنين جنبا الى جنب و تعايشنا وتمازجنا وتصاهرنا وخضنا الحروب العاتية ونحن في نفس الصف, فما عدا مما بدا الآن يا عبدالله. ان المتخذلقين من امثال صديقك العالم يحاولون بث بذور الفرقة والضغينة والكراهية بيننا بدل الحوار والتفاهم وتصفية الأجواء واضفاء حسن النية على القلوب والأبصار.
الا ترى يا عبدالله ان هذا "الحوار الهادئ" الذي يجري بيننا الآن – والذي قد يمتد غدا ايضا – الا ترى انه يشكل نموذجا لطيفا للحوار الهادئ بين الكتل المختلفة للوصول الى الحل الأمثل بدل اللجوء الى تصعيد المواقف واثارة نزعات الفرقة والضغينة ومحاولة وضع اليد على ما هو ليس باليد. يجب ان تفهم يا صديقي يا عبدالله انك لن تستطيع ان تمحيني من الوجود فان من هو اقوى واشرس لم يستطع ان يفهم ذلك رغم جهوده المستمرة منذ ربع قرن او يزيد. وكذلك فاني لااستطيع ان امحيك من الوجود و ليست لي النية في ذلك اصلا. اذا لماذا لايحاول كل طرف ان يلزم حدّه ويعترف بما لأخيه من حقوق ليريح و يستريح!
هذا غيض من فيض يا عبدالله ولنا لقاء آخر لنعاود حوارنا و حديثنا ان شئت والسلام على من اتبع الهدى و كفّ عن السعي لضم نعاج غيره الى نعاجه!
وانصرفنا على امل اللقاء في حوار آخر بين الجد و الهزل...