لوحات ملونة يرسمها الأذربيجاني
غضنفر باشاييف عن التراث التركماني العراقي
نصرت مردان
لا يمكن أن يقوم التراث الثقافي على فراغ انساني. بل هو حصيلة فكر، وثمرة خبرة، واحداث وتوارث. والتفاعل الانساني، هو الخميرة الأساسية في التكوين الانساني للتراث، الذي لا يمثل وجها، ولابعدا، ولازمنا واحدا. بل ابعادا متعددة للتاريخ والمكان والزمان. وهذا مايضيف للتراث أي تراث ثراء ومكسبا معرفيا وعلميا.
يشعر المطلع على التراث التركماني بأنه ينطلق من منطقة الظلمة، الى منطقة الفعل التاريخي. ومن رتابة اليوم العادي، الى صناعة الهوية الوطنية الحضارية. ان ثراء التراث التركماني، يكمن في ثراء رموزه ودلالاته وقدرته على التعايش، والتنفس برئة حية عبر القرون. وهذا ما يفعله عالم الفلكلور الاذربيجاني د. غضنفر باشاييف حينما ينبه القاريء الى ثراء هذا التراث، وثراء آفاق حلمه الانساني. حيث يكسب المنظور التراثي رونقا وأبعادا انسانية. ولعل ما ساعد باشاييف على التعمق في تراث تركمان العراق، هو ذلك التشابه الكبير بين اللغتين. ويقول الباحث التركماني المعروف عطا ترزي باشي بهذا الصدد ((ان اللهجة التركمانية قريبة من اللهجة الأذرية، وكأنهما توأمان. فرغم التطورات المختلفة فليس ثمة فارق كبير بين اللهجتين..))
صلات وثيقة
ان بلاد الرفدين تعد اقرب بلد عربي مسافة الى آذربيجان. فضلا عن تشابه العادات والتقاليد بين الشعبين عامة، اضافة الى التشابه اللغوي بينهم وبين تركمان العراق خاصة. ولعل أهم آصرة تربط الأذربيجانيين كشعب بالعراق، هو وجود ضريح أمير الشعر التركماني (فضولي البغدادي) في كربلاء. والذي يكن له معظم الاذريين أقصى درجات التبجيل والاحترام لكونه كتب قصائده باللغة التركمانية التي تتشابه مع اللغة الأذرية الى حد بعيد. حيث يحرص جميعهم على زيارة ضريحه عند زيارتهم للعراق. اضافة الى ان دولة اذربيجان تنظم مهرجانات سنوية في ذكراه. ويكفي للدلالة على عظم محبتهم له أن الوفد الاذربيجاني الذي حضر مهرجان فضولي في العراق عام ۱٩٩٤ ضم في صفوفه ۱۲٨ عالما وكاتبا وشاعرا وناقدا وفنانا. وقد ترأس الوفد الروائي الاذربيجاني المعروف الجين أفندييف نائب رئيس الوزراء ويقول باشاييف عن زيارته هذه في كتابه (ست سنوات على ضفاف دجلة والفرات ((في اليوم الأخير لمهرجان فضولي البغدادي، توجهنا الى كربلاء ووقفنا امام ضريح الشاعر الخالد بكل اجلال وحب وذرفنا الدموع وقبلنا الضريح الذي بني من جديد((.
كما أن العالم الاذربيجاني المعروف الخطيب التبريزي درس في بغداد، وتراس المدرسة النظامية المتميزة بفرادتها العلمية في القرون الاسلامية الوسطى. والعالم الاذربيجاني (أبو النجم عبدالقادر السهروردي، نشأ وترعرع ببغداد. وفي القرن الحادي عشر زار العراق أيضا الشاعر الأذري (خاقاني شيرواني) حيث ترنم بقصائد جميلة عن بغداد وعن آثارها وحواضرها الثقافية. وهناك أحياء في اذربيجان تبدأ اسمها بعرب مثل (عرب شاه ديري، عرب قوبالي، عرب اوشاغي). تأكيدا لحب الأذريين لاخوانهم العرب. كما انتخب المجمع العلمي العراقي العالم الاكاديمي حميد آراسلي عضوا فخريا، وتم في ۱٩٨٩ انتخاب البروفيسور وسيم محمد علي عضوا مؤازرا في المجمع نفسه.
زيارات متتالية الى كركوك
قام باشاييف بأول زيارة له الى كركوك في عام ۱٩٦۲ حينما كان يعمل كمترجم من الانكليزية في احدى الشركات الروسيةالعاملة في العراق، برفقة لفيف من شعراء أذربيجان: بختيار وهاب زادة، قاسم قاسم زادة، والشاعر رسول رضا محملا بالمعلومات التي حصل عليها من م. شيراليف وعباس زمانوف عن ثراء التراث الفولكلوري التركماني. وقد كتب رسول رضا بعد هذه الزيارة رائعته ((أوزاق ئه لرين ياقين تحفه سي ـ ابداعات قريبة من بلاد بعيدة). كما كتب بختيار وهاب زاده قصيدة (اودلار اولكه سي) عن نيران (باباكركر( الخالدة. أحس باشاييف خلال هذه الزيارة وزياراته المتعددة خلال سنواته الست التي امضاها في العراق، أنه قريب من نبض هذا البلد لأنه يتكلم فيه لغته. مدركا ان اللغة هي نسيج الروح. وان ثرى هذه الأرض تضم رفات (سيد عمادالدين نسيمي)و(فضولي البغدادي) أعظم شاعرين تركمانيين أنجبتهما أرض العراق، يحتفي بهما حتى يومنا هذا، الدول التاطقة بالتركية. كما شعر بالذهول حينما شاهد تشايه الكثير العادات والتقاليد الشعبية في كركوك وضواحيها والتي تتماثل مع مثيلاتها في اذربيجان.
قام باشاييف عام ۱٩٦٦ بزيارة أخرى الى كركوك التقى فيها مع رائد الاغنية والمقام التركماني عبدالواحد كوزه جي اوغلو، مستمعا منه الى اصول غناء الخوريات (بيات باللغة الاذربيجانية) والمقامات الغنائية، وتصفح كتابا يضم نصوص الأغاني الشعبية لكوزه جي أوغلو، ليكتشف مرة أخرى، أن نفس الأغاني وبتحويرات طفيفة للغاية يترنم بها المغنون الشعبيون في اذربيجان. كما يصاب بدهشة أكبر حينما يكتشف أن المعتقدات الشعبية: هز المهد الفارغ يؤدي الى اصابة الوليد بالمغص، عدم غسل الوليد الا بعد مرور ٤۰ يوما على ميلاده، كنس البيت ليلا يؤدي الى اغتراب صاحب الدار، رش الماء وراء المسافر تفاؤلا بعودته قريبا سالما الى داره، قذف حجارة خلف الضيف الثقيل كي لا يعود ثانية، رش ٤۰ طاسة ماء على رأس من يرتكب معصية كدليل لاعلان التوبة. هي نفس المعتقدات الشعبية في بلده أذربيجان. يدفع هذا الاكتشاف المذهل الى احساسه بضرورة توثيق التواصل التراثي، واللغوي القائم بين التركمان في العراق. ويلتقي ياشاييف أيضا خلال زيارته بنخبة من خيرة المثقفين التركمان في كركوك: الباحث مولود طه قاياجي والشاعر محمد عزت خطاط والشاعر الشعبي مصطفى كوك قايا الذي استمع منه الى قصص الحب الخالدة في التراث التركماني والمعروفة في أذربيجان ايضا (أصلي وكرم)، (ارزو وقنبر)، (طاهر وزهرة) وغيرها. كما التقى بالشاعر المعروف محمد صادق وسجل معه حديثا عن الثقافة والشعر واستمع الى قراءاته لقصائد من ديوانه (جوشقون دويغولاريم ـ مشاعري الفياضة) وقصائد الشاعر التركماني الخالد هجري ده ده . كما استمع من شخصيات تراثية الى طرائف (ملا نصرالدين ـ جحا التركمان) وطرائف (كفر أحمد). وخلال زيارته يكتشف أيضا ان (قلعة كركوك) تشبه (ايجه ري شهر) في باكو، وأن نهر (خاصة صو) يشبه نهر (كور) المار من العاصمة الأذربيجانية. ويكتشف باشاييف كذلك كدلالة على مدى التقارب جغرافيا بين التركمان والأذربيجانيين، ثمة تشابه حتى في تسميات الأحياء والعديد من المناطق الجغرافية. فالقرى التركمانية العراقية بيات، نهر آق صو، قره بولاق، جرداغلي، آمرلي ,ينكجه تقابلها مناطق تحمل نفس الاسم في اذربيجان.
انتهز باشاييف خلال هذه الزيارة الفرصة، فسافر الى بلدة (آلتون كوبري) التي تبعد ٤٥ كيلومترا عن كركوك. حيث نزل ضيفا على أحد بيوتها مستمعا الى حكايات شعبية وأساطير وأمثال شعبية وخوريات وأغان تركمانية سجلها على عدة أشرطة. وعند عودته الى وطنه، بدأ يقدم من اذاعة باكو سلسلة من البرامج عن التراث التركماني العراقي وموسيقاه وأدبه.
لم يكتف ياشاييف بهذه الزيارة، بل زار العراق للمرة الثالثة (۱٩۷۲ ـ ۱٩۷٥) قام خلالها بزيارة كركوك أيضا، استقبل فيها من قبل مثقفيها وشعراءئها، بحماس ومودة وكأنه أحد أبنائها (على حد تعبيره). والتقى خلالها بالباحث التركماني المعروف الاستاذ عطا ترزي باشي، مستفيدا من ملاحظاته وأفكاره القيمة في اعداد رسالة الدكتوراه عن (لهجة كركوك والتراث التركماني العراقي). واكتشف مخطوطة نادرة مع الشاعر عبداللطيف بندر أوغلو عن مؤسس الشعر التركماني (عماد الدين نسيمي) في قرية (بشير) التركمانية.
البيت العراقي في باكو
في أرض بغداد وكريلاء بحث باشاييف، عن بصمات نسيمي وفضولي وخاقاني. ولاتزال أصداء سنواته الست الني عاشها على ضفاف دجلة والفرات حية ونابضة. لقد عاش باشاييف في العراق مثل اذربيجاني يتنفس عبق نسائم كركوك التي عاش فيها مثل تركماني من (طوزخورماتو). وحينما عاد الى بلاده أسس بأمواله الخاصة في حي (ايج شهر) في العاصمة باكو عام ۱٩٩٥ (عراق توركمن أوجاغي ـ منتدى تركمان العراق). مهتما بادامة صلاته المعنوية مع ينابيع التراث التركماني التي اكتشف منها ذلك الدهليز السري، الذي يفضي الى مرآة الزمن المعاصر التي تنعكس عليها بسطوع عالم فضولي البغدادي وميراث الثقافة التركمانية. يضم جميع الكتب الصادرة بالتركمانية في العراق، والمصادر التي تتحدث عن تركمان العراق باللغة الاذربيجانية. اضافة الى لوحات زيتية للرسامين التركمان، وصور لشخصيات ثقاقية تركمانية من كتاب وشعراء.
ومعروضات من الفخار لفنانين شعبيين من منطقة (طوزخورماتو) التركمانية. وهو مركز ثقافي هام في أذربيجان لكل من يريد الاطلاع، على تاريخ وثقافة تركمان العراق. وقد قال عنه الشاعر والكاتب آياز وفالي ((هذا البيت يعكس التآخي بأجلى صوره بين الأذريين والعراقيين في طريق الحضارة واللغة والأدب والثقافة. وهو صرح حضاري لعمق الأواصر الأخوية التي تمتد لقرون بين العراق وأذربيجان)(.
كتاب (التراث التركماني العراقي
يدفع الاكتشاف المذهل للتواصل التراثي واللغوي القائم بين التركمان في العراق، باشاييف للسؤال عن الدافع المجهول الذي لا يقاوم، والذي جعله ينذر حياته للتعريف به. دون شك باشاييف يملك الرد على هذا التساؤل:
((ترى ماهو الدافع وراء اهتمامي بالتراث التركماني العراقي؟ لعل أول مايتبادر الى الذهن كرد على هذا التساؤل، هو عمق العاطفة المكنونة المتأتية من القناعة، بانه لا يمكن للمرء أن لايبحث عن اقاربه في أي مكان يحل فيه. فالروابط بين الشعبين، كفيلة بحل كل المعضلات وفتح كل الأبواب. محبتي لهذا التراث، وآصرة القربى جعلت من المستحيل، التغاضي عن هذه الثروة الثقافية التي لاتقدر بثمن. حيث ان ثقافتنا رويتا من نفس النبع. ولاتزال هذه الآصرة موجودة رغم البعد الجغرافي بين شعبينا)).
اعتمد د. غضنفر باشاييف في اعداد كتابه الأخير (التراث التركماني العراقي) على مصادر عربية وروسية وانكليزية وتركية. كما قام بجولات ميدانية في كركوك والقرى التركمانية المحيطة بها. لأيمانه ويقينه أن تراث أي شعب يكشف عن هويته ونفسيته وتاريخه. لذلك فليس غريبا أن يكون التراث مكملا لشخصية الشعوب وفكرها وتطلعاتها وسلوكها وشخصيتها.
يتألف الكتاب من ثلاثة فصول:
ـ المراسيم التراثية / المعتقدات، القسم، الدعاء، المراثي، أغاني الأفراح.
ـ النصوص الغنائية العاطفية: الخوريات (رباعيات معتمدة على الجناس في البيت الأخير. ويسمى في أذربيجان بـ (بيات)، الأغاني الشعبية، الترانيم، الأحجيات.
ـ التراث التعليمي: الأمثال الشعبية، النكات والطرائف والمعتقدات الشعبية. والأساطير.
يدفع الحماس باشاييف الذي يعتبر اللغة الشعبية بمثابة الوعاء الذي يحفظ التراثين التركماني العراقي والآذربيجاني الى ((اعتبار تراث التركمان الذين يقطنون شمالي العراق، وخاصة كركوك حيث يتجاوز عددهم المليوني نسمة، جزءا متمما للتراث الاذربيجاني))
نشر المؤلف كتابه الهام (الفولكلور التركماني العراقي)عام ۱٩٩۲ في باكو عاصمة أذربيجان. وقد تم طبع الكتاب ببغداد أيضا في ۱٩٩٥ من قبل مديرية الثقافة التركمانية. كماتم طبعه باستانبول في ۱٩٩٨ من قبل (وقف كركوك) للثقافة والنشر الذي يشرف عليه الباحث عزالدين كركوك.
اليوم فان باشاييف الذي نذر حياته للتعريف يالتراث التركماني العراقي، والذي يقول عنه الشاعر الأذري الكبير بختيار وهاب زادة ((عملت في العراق ست سنوات، لم تكتف بالعمل بل قادتك مشاعرك الفياضة للاصغاء الى الصوت الذي مافتيء يخاطب أعماقك. ذلك الصوت الذي قادك صوب اخوتك في كركوك الذين حافظوا عبر قرون على ميراثهم الحضاري. تتبعت نداء أسلافك وأديت مهمتك المعنوية تجاههم على أكمل وجه))، يعتبر أحد اهم المتخصصين، في تاريخ تركمان العراق وأدبهم وميراثهم الفولكلوري. ولعل أهمية هذا الكتاب تأتي في تسليطه الضوء على تراث قومية عراقية، لا يزال العديد من جوانب شخصيتها الثقافية والتراثية مجهولة بالنسبة للمثقفين العرب عامة والعراقيين خاصة.
ثبت بمؤلفات غضنفر باشاييف
ـ خوريات كركوك، ۱٩٦٨
ـ ملحمة ارزو وقنبر، ۱٩۷٣
ـ أغنيات كركوك، ۱٩۷٣
ـ الأمثال الشعبية لتركمان العراق، ۱٩۷٨
ـ أحجيات كركوك، ۱٩٨٤
ـ ست سنوات على ضفاف دجلة والفرات، ۱٩٨٥
ـ التراث التركماني العراقي، ۱٩٩۲