اصر العراقيون على الاتجاه الى صناديق الاقتراع يوم الأحد الماضي في ٣٠ كانون الأول على الرغم من كل محاولات اثارة الفتن الطائفية و تحت ضغط الارهاب و الفوضى التي عمت البلاد منذ سقوط نظام البعث و الى هذا اليوم، ليقولوا للعالم بأنهم شعب متمدن تواق للحرية و بأن العبودية التي رزح تحت ثقلها طيلة العقود الماضية لم تكن من اختياره. اليوم نشوة الانتخابات تعم العراقيين المتعطشين للحرية و الحياة الكريمة التي تليق بالانسان.
ولكن التركمان وهم القومية الرئيسة الثالثة في العراق. حرموا من نشوة الفرح هذه، لان الانانية التي اتسمت بها الاحزاب الكردية العراقية منذ سقوط نظام البعث و الى يومنا هذا في الاندفاع باتجاه تحقيق اهدافهم على حساب اغتصاب حقوق التركمان هي الوصمة التي تلطخ نصاعة هذه الايام و تحرم شعبنا العراقي التركماني من المشاركة في هذه الافراح و هذا الابتهاج. إضافة الى غصة كبيرة يشعر بها اليوم كل تركماني بسبب عدم الاكتراث السائد، كونهم جزء اصيل من الشعب العراقي شاركوا شعبهم العراقي ايام الظلم كلها بلا اية استثناءات. لا أحد يمكنه اليوم ان يقف بطول قامته ليقول لنا بأن التركمان قد تعاونوا مع صدام و نظامه على حساب فئات اخرى من الشعب العراقي. و هذا هو جزء من الشرف و الاصالة التي يتميز بها الشعب التركماني على مدى التاريخ. التركمان لم يلجأوا يوما الى تشكيل العصابات المسلحة او الى الاساليب الغير قانونية و لا الى تجارة المخدرات و لم يعملوا على تفتيت الدولة العراقية و لم يفكروا يوما بتفجير انابيب النفط و تدمير المنشآت المتواجدة في مناطقهم على غرار ما تفعل الجماعات الارهابية و فلول النظام السابق رغم انها تتواجد في اراضيهم لان التركمان عراقيون حريصون على ثروات بلادهم وهم الذين يحمونها فهم جزء لا ينفصل من شعب هذا البلد العريق ويعانون ما يعاني منه الشعب العراقي كله و بقوا الى اخر لحظة يؤمنون بان الحلول الديمقراطية و انتصار قيم المجتمع المدني ستكون انتصارا لهم.
ولكن هل هذا هو ما حصل فعلا؟
بأسف و حزن أقول انه لم يحصل. في الوقت التي تجري فيه محاولات استرضاء من يلجأ الى العنف و الارهاب بقي الاميركان و دول التحالف و الاحزاب السياسية العراقية و صحافتها و اعلامها متفرجة تغض النظر عن الغبن و الممارسات الغير قانونية التي صاحبت الانتخابات في كركوك و المدن و القرى ذات الاغلبية التركمانية.
ـ على الرغم من فرض منع التجول عشية يوم الانتخابات فان اسرابا من السيارات كانت تتجه الى كركوك من المدن الاخرى طوال الليل. هذه السيارات و اللوريات كانت محملة بالاكراد، اما التركمان فكانوا يقفون على جانبي الطريق متفرجين على تحيز قوات الاحتلال. في لقطات بدون تعليق على فضائية اليورونيوز كان يلفت النظر منظر اشخاص يلبسون ملابس الجنود الاميركان و يحملون الكلاشنكوف، يستغرب الانسان ماذا تفعل الكلاشنكوف بايدي الجنود الاميركان و لكن عندما تقرب الكاميرا وجهوههم يمكننا ان نفهم بان هؤلاء في الحقيقة بيشمركة بملابس اميركية.
ـ الخروقات القانونية في المناطق الشمالية من العراق لم تبدأ عشية الانتخابات بالطبع فهي حدثت و تحدث مع سبق الاصرار مصحوبة بالتعمد في غض النظر عنها و الافتراض بانها لم تحدث و لكننا حذرنا منها و من عواقبها منذ بداية الاحتلال، لان الحقوق و العدالة لا تتجزأ ولن تكون هناك عدالة ان طبقت على فئة و اهملت فئة اخرى، و العدالة و القانون لم تكن يوما باطلاق يد فئة من الشعب لتتجاوز على حقوق فئة اخرى، و الا لما كانت هناك الحاجة الى الدولة و لا الى القانون مادام كل يأخذ حقه بيده و بسلاحه. على الرغم من اعلان المفوضية العليا للانتخابات و كما هو سائر في كل الانتخابات بأنه يشترط على الاحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات ان لا تمتلك ميليشيات مسلحة. و لكن هذا طبق على الاحزاب الشيعية و تم استثناء الاحزاب الكردية منها التي بقيت تحتفظ ببيشمركتها و اضطر المسؤولون العراقيون في الحكومة الموقتة تحت ضغط الاحزاب الكردية الى اطلاق التصريحات بان البيشمركة مستثناة من هذا القانون! ان لم تكن هناك اسبابا اخرى و هي موجودة و كثيرة فان هذا السبب لوحده يكفي للطعن في شرعية الانتخابات في المناطق الشمالية. استمرت البشمركة بتواجدها و تسلطها على شعبنا التركماني الذي عانى من انحياز مستمر لصالح الاكراد في تشكيلات الامن وفي الوظائف الحكومية. هذا كان تغاضيا سافرا عن التمادي في النزعات و الممارسات العنصرية و الشوفينية و سوف يضطر من يتغاضى عنها اليوم الى تقديم حسابا عسيرا عندما تستفحل نتائجها و لم يعد بالامكان الادعاء بانها لم تحدث.
ـ لم تشرف على الانتخابات هيئات من الامم المتحدة و لا من منظمات دولية غير منحازة لضمان نزاهة الانتخابات و فرز النتائج فكان من السهل تمرير الكثير من الممارسات الغير قانونية وتزييف الكثير من الاوراق الانتخابية لصالح اكرادا قدموا من خارج كركوك و من خارج العراق و يقدر عدد الناخبين المزيفين في كركوك باكثر من مائة الف، و لم يتم صبغ اصابع مجموعات من الناخبين الاكراد بالحبر ليتمكنوا من ادلاء اصواتهم في اكثر من مركزا انتخابيا و في المحلات التي تسكنها غالبية كردية في كركوك كانوا يرسلون اطفالهم دون السن القانوني للادلاء باصواتهم و رأينا افواجا من السيارات المليئة بالاكراد قدموا من السليمانية و مناطق اخرى ظهر يوم الانتخابات بعد ادلائهم باصواتهم هناك ليصوتوا مرة اخرى في كركوك. اما التركمان فقد كان يجري ارهابهم في قراهم و محاولة منعهم من التوجه الى صناديق الاقتراع و الكثر منهم لم يتم قبولهم في المراكز الانتخابية و طلب منهم الذهاب الى مراكز اخرى في قرى اخرى للادلاء باصواتهم و هذا يعني استحالة مشاركتهم بسبب منع التجول و عدم توفر و سائط النقل. و لم تكن مهاجمة قناة التلفزيون التركماني و اعتقال مراسلها الا واحدة من هذه التفاصيل التي يطول سردها هنا.
كل هذه الاعمال الغير قانونية والتي لا تمت بأية صلة للمارسات الديمقراطية جرت في المناطق التركمانية و على يد الاحزاب الكردية و بيشمركتها و بغض النظر المتعمد من قبل قوات الاحتلال و كانها لم تحصل، و لكنها حصلت.
ربما يتصور اليوم ممن تغمرهم نشوة الفرح بأنه من الممكن بناء عراق ديمقراطي و دستوري على اساس مثل هذا يعاني من شرخ كبير في مفاهيم العدالة و الحقوق. و لكن اليوم نقولها كما قلناها من قبل بانه لن تكون هناك ديمقراطية و لم بناء صلب لدولة العراق ان تمادت الجهات و القوى التي تمتلك اليوم الوسيلة للوقوف بوجهها و لا تفعل شيئا بل فضلت السكوت و مجارات الامور.
كواليس السياسة العالمية لها تجربة من هذا القبيل من خلال تعاملها مع القضية الفلسطينية و لكنها اليوم وصلت طريقا مسدودا تحاول الخروج منه و هو امر لا يبدو سهلا او حتى ممكنا لو رأينا كيف ان الفلسطينيين يعيشون في فقر و حرمان من ابسط الخدمات و يتصارعون مع الاسرائيليين على قطرة الماء التي يشربونها ولكنهم شعبا و ليسوا حفنة من الناس يمكن التغاضي عنهم، محاولة حل مشاكلهم و النهوض بمستوى معيشتهم اليوم قد يهز اساس الدولة الاسرائيلية. العالم اليوم وصل الى درجة من الوعي افضل كثيرا مما كان عليه الامر قبل عدة عقود مضت و لا اعتقد بان التركمان و قادتهم سيكررون اخطاء غيرهم و لا تركيا ستحذو حذو الدول العربية. تركيا بلد رصين لا تندفع بشعارات الشارع في اتخاذ خطوات قد تبدو اليوم علاجا موقتا لمداراة مشاعر الغبن التي يعيشها التركمان و لن تلجأ الى استنزاف المشاعر القومية او الدينية و انما على الاغلب ستصوغ سياستها على اساس الحقوق و القوانين الدولية و حقوق الانسان و الشعوب ولا اظن سيبقى اي حيف لحق او يلحق بالشعب التركماني بدون حساب. وان كانت اوربا اليوم تحاول ان تحاسب الجمهورية التركية على ادعائات حول ابادة جماعية يحاولون إثبات انها لحقت بالارمن اثناء تهجيرهم من قبل الامبراطورية العثمانية، فأن على اوربا و العالم ان يراقب ما يحدث في كركوك بنفس الاهتمام و الحساسية. و ان كان العالم من قبل يتعاطف مع الاكراد بسبب ما تعرضوا له على يد الحكومات الدكتاتورية لا يمكنه ان يتغاضى عن مظلومية التركمان لان الحقوق و العدالة لا تتجزأ.