عندما كتبنا وفي هذا المكان بالذات، من القدس العربي في الثلاثين من كانون الثاني (يناير) الماضي، مقالتنا التي حملت عنوان (الباجه جي.. والمهمة العسيرة والامتحان الصعب) طالبنا فيها الدكتور عدنان الباجةجي (أن يغادر رقته وتواضعه ويتحول الي مقاتل سياسي في مواجهة اولئك الذي تتوحد مصالحهم في استمرار الفوضي ومواصلة النهب واللهف والاستحواذ علي المال العام والصفقات والمناقصات والعمولات)، وأكدنا عليه ضرورة ان يواجه (الثلاثي) احمد الجلبي وجلال طالباني وعبدالعزيز طباطبائي، والعمل علي انهاء ميليشياتهم المسلحة، التي عاثت فساداً وابتزازاً وارهاباً في البلاد، وذلك في معرض تعليقنا علي الانباء التي تحدثت عن اتجاه قوي في واشنطن اتضحت ملامحه يومذاك، لتعيينه رئيساً للدولة او الحكومة، لم نكن نضرب في الرمل.. ولا نقرأ في علم الغيب، وانما كنا نبني تصوراتنا استناداً الي معطيات سياسية وميدانية، اثبتت احداث الايام الثلاثة الاخيرة من الشهر الماضي، صحة توقعاتنا وسلامة تحليلنا.
فقد حدث الذي تكهنا بوقوعه، وحصل الذي قلناه قبل اربعة شهور، وها هو الباجه جي (يخرج من المولد بلا حمص)، كما يقول المثل العربي المشهور، محبطاً خالي الوفاض، مسدلاً الستار علي صفحة ملتبسة من مسيرته السياسية كان بمقدروه ان يختمها بشيء نافع ومفيد، لو انه خاضها علي طريقة (يا قاتل.. يا مقتول) التي اقترحناها عليه في مقالتنا السابقة، وفهمها بعض انصاره ومريديه خطأ، وكتب احدهم الي القدس العربي يحتج عليها وعلينا لاستخدام ونشر هذه المفردات، مع اننا كنا نقصد مضمونها السياسي كما هو واضح، إدراكاً منا بان الباجه جي لا يحسن استعمال اي شكل من اشكال الاسلحة.. بما فيها سكين المطبخ!
وفي التفاصيل لما حصل في بغداد وواشنطن في اليوم الاخير من الشهر الماضي، هو ان مبعوث الامم المتحدة السيد الاخضر الابراهيمي عرض نتيجة مشاوراته واتصالاته مع القوي والفعاليات السياسية والدينية والثقافية والاجتماعية العراقية الواسعة التي اجراها مع قياداتها وشخصياتها علي امتداد اكثر من ثلاثة اسابيع حول المرشح الاكفأ والأنسب لرئاسة الدولة وكلها اجمعت علي الباجه جي، باعتباره رجل دولة سابقا، ونزيه وشخصية معتدلة وليست عليه ملاحظات او شبهات، علي السفيرين الامريكيين روبرت بلاكويل مساعد مستشارة الامن القومي كونداليزا رايز، الموجود في بغداد منذ شهرين للاشراف علي عملية ما يسمي بـ(نقل السيادة) وبول برايمر الذي يرأس سلطة الاحتلال بصفة حاكم اداري كما يطلق عليه، ودارت مناقشات بين الثلاثة (وانا انقل هنا من احد الذين شاركوا في هذه الفعالية طلب عدم ذكر اسمه لاعتبارات تتعلق بوضعه الوظيفي) تمكن المبعوث الاممي في نهايتها من اقناع السفير بلاكويل بان المرحلة الراهنة في العراق تستدعي رئيسا يكون شخصية مقبولة من الاطراف التي لها حضور وتأثير في الشارع العراقي، وهي اجمعت علي الباجه جي، مع ان مواقفها مناهضة للاحتلال، وهذا شيء اعتبره الابراهيمي مهماً وايجابياً ويخدم العملية السياسية في البلاد مستقبلا، مؤكداً ان تحفظات واعتراضات بعض اعضاء مجلس الحكم علي الباحه جي لا تقوم علي اسس صحيحة ولا تستند الي حجج مقنعة، وانما انطلقت من دوافع غير سياسية، ويبدو ان الدبلوماسي الاممي الحذر ترفع عن الاشارة الي ان هذه الدوافع هي في الواقع طائفية وعنصرية وشخصية، نظراً لما يتمتع به وزير الخارجية الاسبق من سمعة جيدة وتوجهات قومية وعلاقات عربية.
ولكن تبين ان اقتناع بلاكويل بوجهة نظر الابراهيمي لم تكن كافيه، لان برايمر تردد في الموافقة منبهاً بان حلفاء واشنطن والمتعاونين معها وحدد اسماء الحزبين الكرديين والمجلس الاعلي وحزب الدعوة باجنحته الثلاثة، لا يقبلون بالباجه جي رئيساً للدولة، وان قادة هذه الاحزاب توسلوا به، وواحد منهم كاد يبكي امامه ـ هكذا قال ـ مذكراً بصلاته وعلاقاته القديمة مع امريكا، مستعطفاً آخر خدمة يطلبها من (الاصدقاء) باستبعاد الدكتور عدنان، كل هذا حدث والباجه جي في منزله مطمئن بانه المرشح الاوفر حظا للحصول علي المنصب (الرمزي) كما اسماه فيما بعد.
وفي نهاية الاجتماع اتفق الابراهيمي وبلاكويل باعتبارهما المرجعية في حسم هذا الامر علي اختيار الباجه جي، ووافقا ايضا علي اعلان ذلك في اليوم التالي، الاول من الشهر الجاري، وفعلاً تم استدعاء الباجه جي صبيحة ذلك اليوم وأبلغ بما تم الاتفاق عليه، وهنا لعب برايمر لعبته واختار لها توقيتاً حساساً، حيث انزوي بالباجه جي واخبره بان الحزبين الكرديين والمجلس الاعلي وحزب الدعوة، قرروا سحب مرشحيهم لشغل منصبي نائبي الرئيس والوزارات التي خصصت لهم احتجاجاً علي تعيينه، وهذا يعني البدء من جديد لاجراء مشاورات ولقاءات مع شخصيات واطراف عديدة لاقناعها بالمشاركة في الوزارة التي استكملت تشكيلتها في حينه، وهذا في رأيه يعقد مهمة رئيس الوزراء المكلف الدكتور اياد علاوي، ويؤخر اجراءات اعلانها، وانطلت اللعبة أو الحيلة لا فرق، علي الباجه جي وبدلاً من الثبات علي موقفه وعدم التراجع عنه، كانت المفاجاة التي اذهلت مبعوث الامم المتحدة، الذي كان قد تحسب للامر مسبقاً، واعد قائمة ضمت اسماء شخصيات سياسية مستقلة واكاديمية شيعية وكردية جهزها للطوارئ او في حالة سحب او انسحاب وزراء مرشحين من الاحزاب، ان الباجه جي استجاب لرغبة الحاكم الامريكي الخفية، وأبدي استعداده للانسحاب من هذه (المشكلة) والاعتذار عن تسلم منصب الرئيس، وهذا ما تم بالفعل، كل الذي طلبه هو ان يقوم الابراهيمي باعلان نتائج اتصالاته ومشاوراته مع مختلف القوي والهيئات في خارج مجلس الحكم، وكانت قد رشحته هو كما اسلفنا، ويبدو انه كان يهدف من وراء هذه الحركة اشعار الرأي العام العراقي، بان التيارات السياسية والاجتماعية والنخب العراقية المناهضة للاحتلال وافقت عليه، معتبراً ذلك مكسباً سياسياً يضيفه الي رصيده، ولكن مبعوث الامم المتحدة وهو علي حق وجد في طلب الباجه جي، مسألة لا داع لها ما دام قد اعتذر وانسحب، وهكذا عاد الباجه جي الي منزله ليعقد مؤتمراً صحافياً، غلب عليه الطابع الدبلوماسي ليتحدث عن ملابسات ترشيحه واختياره واعتذاره، دون ان يفصح كعادته عن تلك (التكتلات) الحزبية والسياسية، التي وقفت ضده وعارضت توليه المنصب الرمزي علي حد قوله.
وقد بات واضحا ان الباجه جي وقع ضحية ثقته بسلطة الاحتلال مرة أخري وللمرة الثالثة علي التوالي منذ عودته الي العراق عقب سقوط النظام السابق، المرة الاولي عندما وافق ان يكون عضواً في مجلس الحكم (المنحل) وهو الذي صرح في اكثر من مناسبة انه لن يقبل وظيفة او موقعاً بدون انتخاب، والمرة الثانية عندما صدق الوعود الامريكية بانه الرئيس لا محالة، وضغط علي نائبه في تجمع المستقلين الديمقراطيين الدكتور مهدي الحافظ وزير التخطيط، بالابتعاد عن المنافسة علي منصب رئيس الوزراء، علي اعتبار انه لا يمكن ان يتولي رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة عضوان في تجمع سياسي واحد، مع ان حظوظ الحافظ في تسلم المنصب كانت جيدة في باديء الامر، والمرة الثالثة والاخيرة التي خدع امريكياً، كانت في قضية ترشيحه للرئاسة التي استمتع باجوائها نصف ساعة فقط، قبل ان يعتذر ويخرج من دائرتها منصرفاً الي الراحة والاستجمام وليس التقاعد كما صرح في مؤتمره الصحافي. وصحيح ان منصب (رئيس الدولة العراقية) بمواصفاته الحالية والتقييدات المحيطه به، لا يضيف شيئاً مهماً الي شخصية مثل الباجه جي الذي كان يتمتع بصلاحيات واسعة منذ 45 سنة اكثر بكثير من صلاحيات الرئاسة راهناً، عندما كان وزيراً وسفيراً في العراق، ومستشاراً بدرجة وزير في الامارات، الا ان الصحيح ايضاً انه خسر كثيراً من رصيده وحضوره السياسيين، ومن الصعب عليه ان يعوض خساراته الثلاث وخصوصا الاخيرة في المرحلة المقبلة اذا واصل مشواره ومسيرته، لان مشكلة الباجه جي وقلنا ذلك في مناسبة سابقة، تكمن في انه رجل علي نياته في العمل السياسي، ويفتقر الي مقومات اساسية في هذا الميدان، رغم انه شخصية باعها طويل في الحقول السياسية والدبلوماسية والادارية، ولكن طيبته ورقته وتساهله في قضايا مهمة، تطغي علي اداءه وعلاقاته، فهو ما يزال (هاوي) سياسة وليس محترفاً، والمرحلة اليوم في العراق المحتل، لا تتيح للهواة ان يلعبوا دوراً مؤثراً، ولا مكان لمن يضع قدماً هنا وقدماً هناك.