مواقف مأساوية للبعض في الغرب. . . ذات معنى ودلالات لا تبشـّر بالخير
(الموقف الأول)
في ربيع سنة ٢٠٠٠ أي قبل سقوط السلطة في العراق بثلاث سنوات حين كنت في أحدى مكتبات مقاطعة ويلز في بريطانيا، شاءت الصدف وأن ألتـقيت بسيدة في العقد الخامس من عمرها تعمل موظفة في المكتبة، بدت لي من ملامحها الشرقية ومن لهجتها وهي تتكنم الأنكليزية بأنها من العراق. فوجدت نفسي فضوليا وسئلتها عن جنسيتها وأحوالها فدار هذا الحوار معها.
- لهجتك ليست غريبة عليّ، ياترى ما هي جنسيتك أن لم أكن فضوليا؟
- أنا كردية من كردستان (أجابتني وهي مزهوّة بنفسها).
- نعم واضح أنك سيدة كردية ولكن هل أنت من أكراد العراق أم من أكراد تركيا؟
- أنا لست من العراق ولا من تركيا بل أنا كردية من (كردستان) ولكن لا وطن لي بعد! ! !
تعجبت كثيرا من هذا المنطق الغريب واللا معقول فقلت لها:
- الله أكبر، كيف ليس لك وطن؟ أو ليس العراق وطـنك و وطن أباءك ومسقط رأسك الذي ولدت وكبرت فيه؟ كيف تنكرينه؟
- هذا صحيح و لكني من (كردستان) وكردستان وطني!
- ولكن(كردستانك) هي جزء لا يتجزاء من العراق الأم فأنت عراقية ياسيدتي وتحملين جنسيته والعراق هو وطنك، فلم هذا الجحود و نكران الجميل بالله عليك؟
- يبدو عليك بأنك عراقي ولكنك لم تعرّف نفسك لي بعد. من أين أنت من العراق؟
ففي هذه اللحظة لا حظت عليها الأنفعال والتشنج، فأرتأيت أن أكسب ودّها فبادرت الحديث معها باللغة الكردية عسى ولعـّلها تغـّير من نغمتها المتشنجة معي فأستطيع أقناعها (ومستواي في اللغة الكردية لا بأس به حيث أستطيع المطاولة في الحديث قبل أن أكتشف بأني لست بكردي!). فلمحت على وجنتها الأبتسامة والأرتياح فبادرتني بتوجيه الأسئلة المعتادة:
- أذن أنت أردت مفاجئتي، فأنت كردي أيضا؟
فأجبتها وبكل برود أعصاب وبأبتسامة:
- كلا، بل أنا عراقي قبل كل شيء، ثم أنا لست بكردي بل أنا تركماني من كركوك وتحدثي معك بلغتك لا يعني بالضرورة بأني من قومك، فكل قوم بما لديهم فرحون، لكننا جميعا أخوة في البلد الواحد. . . وليس من حقك تكريدي أبدا لمجرد حديثي معك بلغتك.
- بل أنت كردي مثلي حيث أن لغتك الكردية طليقة!
- والله لا أظنها بطليقة ولكني أشكرك على هذه المجاملة اللطيفة. . ولكن لا فرق بيننا فنحن جميعا عراقيون والعراق وطننا يا سيدتي الفاضلة بغض النظر عن قومياتنا. . . لكنني أؤكـد لك بأني تركماني وأعتـّز بقوميتي كاعتزازك أنت بقوميتك ولكني – و قبل كل شيء - عراقي وأفتخر بالعراق.
وأستمر الحديث طويلا في هذه الموضوع دون ملل منها وهي مصـّرة على موقفها العنصري الأفلج. والحقيقة أني أعترف بفشلي بأقناعها في تغييرتفكيرها الضيـّق و مفاهيمها الخاطئة عن معنى المواطنة والولاء للوطن قبل الولاء للقومية بسبب تزّمتها العنصري ونزعتها الأنفصالية ونكرانها للأرض التي أنجبتها.
ولابد لي أن أذكر أحدى الحقائق عن هذه السيدة الفاضلة وهي أنها مع زوجها كانوا قد وصلوا بريطانيا قبل أكثر من عشرين سنة للدراسة في جامعاتها ببعثة من الحكومة العراقية وليس من (كردستان) ولكنها نسيت الماضي بسهولة ونسيت جميل وفضل الدولة عليها. وقد أثرت عدم ذكر أسمها أحتراما لها وحفاظا على خصوصيتها الأنسانية. والحق يقال أن منطلقاتها العنصرية ونزعتها الأنفصالية اصبحت الأن على لسان الكثيرين من أخوتنا الأكراد منذ أذار ١۹۹١. فجميعهم في الغرب - بدون أستثناء المستوى التعليمي - يتنكرون للعراق و أصبحوا يتكلمون بالسياسة خدمة لمصلحة القيادات الكردية، وكلمة كردستان (بدلا من لعراق) على لسان الجميع بغية تكريسها في عقولهم! .
* * *
(الموقف الثاني):
أحيانا أستدعى شخصيا من قبل البوليس البريطاني أو المحامين أو المحاكم أو في المستشفى للترجمة فأطلـّع على أحوال بعض الشباب الأكراد اللاجئون في بريطانيا والذي يتجاوز عددهم الستين ألف لاجىء (حسب علمي) أكثرهم وصلوها منذ منتصف التسعينات عابرين الحدود العراقية الشمالية بدءا من تركيا -التي أوتهم جميعا في بداية الرحلة- ومرورا بالدول الأوربية- وصولا الى بريطانيا. قضايا أغلبهم (أن لم يكن جميعهم) ضعيفة وتافهة الى درجة كبيرة و لا تدخل ضمن شروط معاهدة جنيف الخاصة بحقوق الأنسان وضمان حماية حياتهم من الخطر ومنحهم اللجوء السياسي. والدليل على ذلك النعيم الذي يعيشونه حاليا ومنذ أذار ١۹۹١ ضمن منطقة اللا طيران الشمالية، وما بعد الأحتلال الأمريكي للعراق في أذار ٢٠٠٣ والأمتيازات العالية (من دون بقية العراقيين) التي حصلت عليها القيادات الكردية بفضل تحالفها مع أدارة الأحتلال ضد العراق. أما الأكاذيب التي يذكرونها في أفاداتهم وعن ظروف العراق وتعرضهم الى المضايقات والتعذيب من قبل السلطات العراقية (قبل سقوط النظام) ومن الحزبين الكرديين قي الشمال فحدّث و لا حرج! وأحيانا يرجونني (عندما أنظر لهم بعين الأستفهام والتعجب) وانا أترجم لهم عند المحامين، عن عدم كشف أكاذيبهم تلك والستر عليهم لكي ينالوا مرادهم في ضمان الحصول على اللجوء! وعندما يسئلون عن تواريخ الميلاد فيأتيك الجواب المباشر من قبل جميعهم – وللسهولة المطلقة وتحاشيا للخطأ - بأن تأريخ ميلادهم (اليوم الأول من الشهر الأول من السنة الفلانية) حيث لايعرفون تواريخ ميلادهم الحقيقية أبدا ولا يستطيعون تذكرها نهائيا في المستقبل أذا ذكروا غير ذلك.
فالذي يجيد حبك الأكاذيب وفبركة القصص يكون ممن أوتي حظا في الحصول على الأقامة الدائمية، فيجلب بعد ذلك أفراد عائلته جميعا على حساب الحكومة البريطانية أمـّا الذي يفشل في ذلك وهم (الأقل حظا) يحصلون على اللجوء الأنساني أو الأستثنائي والبقاء في البلد مدة أربعة سنوات قبل تقديمهم طلبا للبقاء بشكل دائمي فيها. وأما الذين يفشلون في الحصول على اللجوء نهائيا ويتهددون في اعادتهم للعراق فيلجؤون الى أساليب ووسائل أنتهازية غريبة جدا وأعذار لا يصدقّها الأنسان العاقل أبدا وذلك من أجل عدم العودة للعراق والتشبث بالبقاء في بريطانيا.
فمنهم من يتزوج من أمراءة بريطانية (وهو متزوج وله أطفال يانعين صغار تركهم في شمال العراق) يلتقي بها في أحدى المراقص والبارات وهي بعمر والدته (أو حتى بعمر جـدّته) والعيش معها والصرف عليها وعلى أطفالها بضعة سنين قبل الحصول على الاقامة، ومنهم من يدعّي بأنتمائه الى جمعيات محظورة في العراق لكنها مسموحة في الغرب أملا في الحصول على العطف ومن ثم اللجوء! . وعادة ما يحصل شجار عنيف بينهم على النساء (والصديقات الأنكليزيات) يستخدمون فيه سكاكين المطبخ وينتهى بهم الشجار في طوارىء أحدى المستشفيات بعد تدخل البوليس ثم في السجون. وقد ترجمت لحالات خاصة كان الجناة فيها متورطون بسرقة تلفونات جوّالة (موبايلات) في الليل من النساء السكارى وحالات للأعتداء الجسدي عليهن.
أمـّا ما يحز في النفس أكثر ويدمي القلوب هو قيام البعض بالتنصـّل عن أسلامه كاملة فيتعّمـد ويتحـوّل الى المسيحية ويتردد على الكنائس بشكل منتظم لكي ينال الدعم الكامل من المبشـّرين المسيحيين والكنائس (والذي لا يصدقني فما عليه سوى الوقوف امام أحدى الكنائس في المدن البريطانية أيام الأحد ليرى بأم عينيه ما أقول). و قد ألتقيت بعدد لا بأس به من هؤلاء وهم لا يبالون بما فعلوا بل ويصّرون على أفعالهم بكل فخر وثقة بالنفس! ! وقد سألت بعضهم عن مدى جديتهم في تحويل دينهم فكانت أجوبتهم كالأتي:
- "لم لا أذا كان ذلك يضمن لنا اللجوء ثم التجنس والتمتع بالحياة في الغرب حيث المال والجنس والمراقص والبارات"!
- "كيف لا ننتهز مثل هذه الفرص أذا كانت تضمن لنا البقاء في بريطانيا وكسب الأموال وأرسالها الى كردستان". . .
- "أنا لا مانع عندي بالتحول الى المسيحية. . قل لي بالله عليك ماذا قـّدم لنا الأسلام!؟ لا شيء! بينما هؤلاء المسيحيون يقـدّمون لنا الدعم المادي والمعنوي وضمان البقاء في بلدهم والتعرف على نساءهم! ".
وعندما أحاورهم حول الوضع الحالي الجيـّد في المنطقة الشمالية (بعكس المناطق الأخرى من البلد) وبفضل الدعم اللا محدود من قبل سلطة الأحتلال الأمريكي للأكراد وأنه بخير وسكينه، يجيبونني بأنهم على علم كامل بذلك، ولكنهم لا يريدون العودة وسيعملون المستحيل من أجل البقاء في الغرب.
وقد تعرّفت على بعض من هؤلاء كانوا في زمن "صدام حسين" حزبيين ومسئولين (حسب أعترافهم) وكان بعضهم مدراء أقسام و موظفين محترمين يتمتعون بكامل حقوقهم وأمتيازاتهم كحزبيين وكمواطنين عراقيين من قبل الدولة بغض النظر عن أنتمائهم القومي كأكراد جاءوا الى بريطانيا يدعـّون كذبا بأنهم تعرضـّوا الى الأضطهاد والتعذيب والأنفال وهم يحصلون على مساعدات مالية من دوائر الضمان الأجتماعي وتدفع لهم أجور منازلهم من قبل الحكومة البريطانية وهم بالأضافة يعملون في المعامل (وفي غيبة عن عين الرقابة البريطانية) يسمونها (أيشي ره ش) أي عمل أسود (والمعنى عمل غير رسمي) –تهربا عن دفع الضرائب، من أجل التوفير وأرسال الأموال الى ذويهم لشراء أراضي و بيوت في كركوك والمناطق التركمانية الأخرى. والمضحك أن بعضهم يحمل أثار جروح قديمة في جسمه أو في رأسه حصلت له منذ سنوات عديدة في طفولته أو في شجار مع أقرانه في شمال العراق لكنه يدعّي بأنها أثار للتعذيب الجسدي الذي تعـّرض له في السجون (وهو لم ير السجن في حياته أبدا) على يد السلطات العراقية في مديريات الأمن أثناء الأستجواب! . ومنهم من يدّعي بأن والده وأعمامه وأخواله قد قتلوا أو أعدموا ثم دفنوا في مقابر جماعية على يد رجال الأمن العراقي وهم في واقع الأمر – وحسب أعترافهم- أحياء يرزقون و يعملون في العراق وحتى يتكلمون معهم بالتلفونات بين وقت وأخر. وأكثر هؤلاء ان لم يكن جميعهم عندما يتحدثون مع البريطانيين يحاولون أيصال القضية الكردية والأيحاء لهم عن معاناتهم مع النظام البعثي وعن حالات العداء بين الحزبين الكرديين. أما أثناء تقديم افاداتهم فهم لا يترددون في كشف أسماء ومعلومات عن وكلاء ورجالات الحزبين الكرديين (الأتحادي والديمقراطي) ككل ومسئولياتهم التنظيمية وأدوارهم في قتل الأخرين في منطقة الحكم الذاتي، وجميع تلك المعلومات محفوظة وموثقة الآن في السجلات الألكترونية في الداخلية البريطانية.
والنتيجة النهائية التي يتوصل اليها القارىء بأن هؤلاء أنما جاءوا الى بريطانيا بدفع من القيادات الكردية لخدمة أهدافها السياسية والمخابراتية في الغرب وتحقيق منافع مادية لهم من أجل الأنتشار الكردي في المناطق الغير الكردية وتحقيق التقسيم. والمحزن في الأمر أنهم عندما يسألون عن موطنهم يرفضون القول أنهم عراقيون ويتنكرون له بل يقولون "نحن من كردستان"! ! !
أن هذه الظواهر (وعشرات مثلها) تعتبر في واقع الحال مواقف سلبية جدا وأنتهازية واضحة تتجسد في نكران هؤلاء الجميل لوطنهم العراق ولدينهم الأسلامي وأعمالا لا تدعو للمفخرة ولا تخدم القضية العراقية أبدا بل تسي أليها أكثر أضافة الى أساءتهم الى أنفسهم أيضا.