كثيراً ما يلتف حولي بعض الزملاءمن الذين يعملون معي في الدائرة نفسها، وبمطرونني بأسئلة على درجة عالية من التنوع، لا تجمعها جامعة، غير كلمة واحدة يعرفون جيداً مدى شغفي وهيامي بها. . تلك هي كلمة كركوك. . وعذراً على تسميتي واياها بكلمة. . فهي اكبر من هذا بكثير. . انها بمثابة الروح من الجسد. . ليس بالنسبة لي وحدي، بل بالنسبة لجميع الذين تنفسوا الهواء من خلال رئتها يوماً من الايام. ومعظم هؤلاء الذين اعتادوا على السؤال عنها، وعن اهلها ومستقبلها، هم من الذين تنفسوا الهواء من خلال رئتها، ولهم معها ذكريات. . فمنهم من ولد فيها، ومنهم من قضى نحباً من طفولته في ربوعها بحكم وظيفة والده، ومنهم من امضى جانباً من خدمته العسكرية في معسكراتها او جزءاً من دراسته في مدارسها. . ولا تعرف على وجه اليقين كيف ان هذه المدينة قد اخذت بألباب هؤلاء، وزرعت فيهم حبها، وكيف ان هذا الحب ما انفك يهتف باسمها باحلى الكلمات واجمل الالحان، رغم ان اخر لقاء بين البعض من هؤلاء وبينها يرجع الى اكثر من ثلاثين او اربعين سنة، او الى زمن الطفولة المبكر. بل ان علاقة البعض منهم معها كانت من خلال لقاء واحد وعابر في الوقت نفسه. . لكنه كان لقاءً ترك في الذاكرة صورة عميقة لا يمحوها الزمن مهما طال. . يقول احدهم في هذا الصدد، انه عندما شاهد نارها الازلية، لاول مرة، وهو في طريقه اليها لانجاز معاملة تقاعد والده، عندما شاهد نارها الازلية من بعيد، سأل صاحبه في السيارة التي يستقلها عن هذه النار، فقال انها مصدر رزق العراقيين جميعاً، وان العراقيين يتدفئون عليها ويطبخون، ويستمدون منها قوتهم وقوَتهم. . اثار هذا الجواب دهشته، بل انه وجد فيه نوعاً من الاستخفاف او الاستهزاء به وبسؤاله. . ولان صاحبه هذا، كان رجلاً مسناً، يبدو عليه علامات الوقار، فلم يبادر الى اظهار عدم ارتياحه لهذا الجواب، فسكت عنه. لكنه عندما انتقل الى مراحل متقدمة من دراسته، ووسعت لديه مدارك العلم والثقافة وزادت عنده قدرة استيعاب لعبة السياسة، أيقين ان ما قيل له، ذات مرة عن النار الازلية في كركوك، حقيقة لم يعد اثنان من العراقيين يختلفان عليها، ولاسيما بعد ان ادركوا ما تعنيها لهم ثرواتهم الوطنية، وما ينبغي عليهم عمله للمحافظة عليها والدفاع عنها.
وكانت احاديث زملائي عن كركوك، يغلب عليها طابع الذكريات، لا تتخللها المواضيع السياسية الا على نحو مبطن او غير ظاهر. تقتصر على المدينة وفضاءاتها واهلها. . كيف هي. . وكيف هم. . هل شهدت تطورات، ونالت حظها من الاعمار والبناء، وهل جرى فعلاً تغيير معالمها في ضوء ما قيل ان اليابانيين قدموا خطة لتطويرها وتغييرها الى ما يشبه مدينة طوكيو، مقابل نسبة من النفط. كيف هي شوارعها واسواقها، اما زالت تعاني من الاهمال والنسيان. . كيف هي قلعتها، اما زالت تحتفظ بشموخها وعنفوانها، رغم ما نالت منها معاويل النظام بحجة تحويلها الى منطقة سياحية يرتادها الناس من كل ارجاء العالم. . كيف هي مقاهيها، اما زالت تحتفظ بذات التفرد والخصوصية التي تميزها، ولاسيما في اشهر رمضان. . كيف هم اهلها، اما زالوا يشكلون ذلك النسيج الملون المحبب الى النفس من القوميات المتآخية التي تتحدث باللغات المختلفة من التركمانية والعربية والكردية والاشورية وغيرها، وتلبس في الغالب زياً متشابهاً.
وكثيراً ما كانت تلك الاحاديث تنتهي ببعض النكات التي تلامس الحياة السياسية في كركوك. نكات تتناول ما تمارس على اهل المدينة من ضغوطات تستهدف تغيير طابعها الديمغرافي من التهجير والابعاد القسري، وتغيير القومية شرطاً من شروط شراء العقارات او التعيين في دوائر الدولة، او تسمية المواليد حسب قائمة خاصة معدة من قبل مديرية الصحة والمعلقة في مستشفى الولادة، ومنع التحدث الا باللغة العربية في المدارس ودوائر الدولة، ومنح امتيازات خاصة للبعثيين دون غيرهم، وسحب البطاقات التموينية من الاسر التي هربت ابناءها الى خارج العراق جراء بطش النظام واتهامه اياهم بالانتماء الى احزاب ومنظمات سرية لا وجود لها الا في خيال النظام.
فالنكات كانت الاطر الوحيدة التي تتناول فيها الناس المواضيع السياسية بشيء من الحرية لغرض التنفيس عن المكبوت، مع ما كانت تتطلب من حذر في الصياغة ودقة في التعبير خوفاً من الانزلاق في الفاظ لا يرتاح اليها النظام وازلامه. . والا فأن الحديث عن السياسة حتى وان كان بصيغة نكتة، لها من يحاسب عليها ويعاقب. . وما اكثر ما عوقب مواطنون على نكات كانوا مستمعين لها بالصدفة البحتة، عقوبة بلغت حد الاعتقال المؤبد او الاعدام. ومن سخرية القدر ان بعض الذين انزل النظام بهم عقوبة الاعدام كانوا بعثيين تهانوا في كتابة التقارير عن نكات سمعوها، ولم يدركوا ما ترمي اليها من معان تمس رموز النظام.
بيد ان احاديث زملائي هذه الايام مختلفة تماماً، مختلفة شكلاً ومضموناً. فلم يعد احد منهم يتحدث عن كركوك كمدينة له معها ذكريات، وانما كمدينة تشكل جزءاً من كيان اسمه العراق، وفي ضوء ما تتردد من اخبار عن هذا المدينة التي ابتليت بفئة لا يشغلها شاغل غير اجترار اسم هذه المدينة بمناسبة وبغير مناسبة، فئة توزعت على منظمات واحزاب، من الصعوبة بمكان الوثوق بوطنيتها. كرست جهدها للترويج لبضاعة بالية، تلك هي ان كركوك مدينة كردية الاصل، فرع لابد ان يعود الى الاصل. . اجتزئت من كردستان ولابد من اعادتها بأية وسيلة كانت. . لا فرق ان تكون هذه الوسيلة بدائية أم حضارية. . فالذين ينادون بعودتها الى الاصل بأساليب حضارية، لا يتوانون من تنظيم مسيرات شبه يومية رافعين علم مهاباد الذي يغلب عليه اللون الاصفر المعروف بما يرمز اليه من حقد وكراهية، مطالبين باجراء استفتاء حول كركوك وضمه الى اقليمهم، الذي رسموا خارطته لتشمل ثلث الوطن بالتمام والكمال. . ويشترطون ان يقتصر هذا الاستفتاء على اقليم كردستان وحده، فلهم وحدهم الحق في تقرير مصير هذه المدينة المغلوبة على امرها من هؤلاء، وما على العراقيين الا ان ينتظروا نتيجة الاستفتاء صاغرين، ويقبلوا بها طائعين، والا فأن حشود المليشيات الكردية التي بدأت تقترب شيئاً فشيئاً من كركوك، وعلى نحو مجاميع صغيرة في الوقت الحاضر على الاقل، لقادرة على حسم النتيجة بقوة السلاح.
وتأتي تحركات الاحزاب والمنظمات الكردية في كركوك وخارجها لتدعم هذه العملية وتساندها بكل الوسائل الممكنة، لا في الخفاء، وانما علناً، امام مرآى الجميع ومسمعهم. . ما الذي يدعو الى الحرج، او العمل في الخفاء، فلا رقيب، ولا رادع، ولا مسؤول ينبه الى خطورة الامر. . ثم أوليس هذا هو حال معظم الاحزاب في الوطن، تعمل حسب توجيهات الجهات التي تأسست في ظلها وبدعم ومساندة وتشجيع منها، ووضعت نصب عينيها تحقيق اهداف تلك الجهات، طالما انها تتلقى منها ما تمدها باسباب البقاء في الساحة العراقية من اموال واسلحة، غير آبهة بمصلحة الوطن في هذه المرحلة الحرجة وما ستؤول اليه الوضع الفوضاوي التي تعم كل مكان، من تمزيق الوطن وتشتيته، بل وتفتيته الى اشلاء مبعثرة لا يمكن جمعها ثانيةً الا بعد سقوط جماجم بقمة هملايا.
وتأتي تصريحات زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني الفجة وغير المسؤولة، لتصب الزيت في النار، وتؤكد على وجود هذه النية الخبيثة. فقد تضمنت تلك التصريحات الكثير من المغالطات، منها ماهي تاريخية، ومنها ما تتعلق بالتجاوز على حقوق القوميات التي تعيش في كركوك، ومنها ماهي متعلقة بمسيرة حزبه الديمقراطي الذي تقوده عائلة البارزاني منذ اكثر من قرن دون منازع او منافس، مما يشكك في مصداقية كونه حزباً شعبياً ديمقراطياً اكثر منه حزباً قبلياً عشائرياً.
لقد اثارت تصريحات البارزاني الاستهجان والاستهزاء في جميع الاوساط الوطنية وتياراتها وباختلاف انتماءاتهم القومية والدينية، وخاصة تلك الفقرات التي اشارت الى ان موضوع كركوك وضمه الى اقليم كردستان، موضوع غير قابل للمساومة، وان هذه المدينة كردية مذ وجدت، وان مؤسسها من عائلة البارزاني، وانه من واجبه، كونه يمثل سلالة تلك العائلة، ان يحافظ عليها، فقد قالها والده ذات مرة، ان كركوك قدس الكردستان. . فمن حقه الان، وبناءً على وصية والده ان يقول: ان لا تفاوض على كركوك. . وان علم مهاباد سيعود ليرفرف في سماء كركوك رغم ان الامريكان قد انزلوه من هناك مؤقتاً بعد ضغط من اهالي المدينة. وان العلم العراقي الحالي لا يمثل العراق، ولا يرمز الى تأريخ العراق الا الى تلك الفترة التي كان الظلم فيها يقع على الاكراد، والاكراد وحدهم دون غيرهم. فمجزرة حلبجة حدثت من قبل جنود كانوا يحملون هذا العلم وان (٤٥٥) قرية كردية من اصل (٥۰۰) قرية كردية قد دمرت، وشرد اهلها تحت راية هذا العلم. وان من عائلة مسعود البارزاني هناك (۳٨) شخصاً قد لقوا حتفهم، ومن عشيرته قتل ما يربو على (٨۰۰) شخصاً، فضلاً عن ابادة نحو (١۳٨) الف كردي. . حدثت كل هذه المجازر تحت راية العلم العراقي. .
احصائية دقيقة يقدمها البارزاني، دون استحياء، عن القتل والتنكيل والابادة والتشريد، متناسياً مساهماته، وهو يحمل علم مهاباد، في مثل هذه العمليات من خلال تعاونه الفذ مع النظام البائد وفي اكثر من مناسبة، واخرها استنجاده بقوات هذا النظام لاقتحام مدينة اربيل، لازالة وجود احزاب كردية وتركمانية كانت تدير شؤون المدينة، سقط على اثرها عشرات من الضحايا من ابناء جلدته ومن التركمان في مجزرة بشعة ليست اقل وطأة في نفوس العراقيين من مجزرة حلبجة.
وحين استعرض مسعود البارزاني الوضع الامني والاستقرار السياسي في كردستان، بدأها اولاً بكلمة شكر حارة للامريكان على جهودهم فيما قاموا ويقومون به وفيما قدموه من خدمة جليلة (لقضيته) لا ينساها التأريخ. . نطقها بصدق ولاول مرة. . فالقضية لديه، محدودة لا تتعدى حدود عشيرته وقبيلته. وهذا ما يدركه الاكراد الوطنيون قبل غيرهم. وما انسلاخ هؤلاء الوطنيون الاكراد في بعض مناطق كردستان وتشكيلهم مؤسسات حكومية مستقلة عن حكومة مسعود البارزاني الا ابلغ دليل على ذلك. . ففي اقليم كردستان في الوقت الحاضر، حكومتان. . حكومة يقودها مسعود، واخرى يقودها جلال الطالباني، المتحالفتان في ظل الاحتلال وخوفاً من عصاه الغليظ. ولا يختلف المحللون في هشاشة هذا التحالف واحتمال تفككه بعد مغادرة قوات الاحتلال الاراضي العراقية لتبدأ بعدها التناحر على من يتزعم المنطقة، ولاسيما انه (لايوجد خط احمر) لدى مسعود البارزاني، كما قال في تصريحاته الاخيرة، والذي بات، وقد اشتد ساعده هذه الايام، لا يتوان في التلويح باستخدام القوة ضد أي فئة كانت تحاول الحيلولة دون تجاوزات على حقوقها المشروعة.
لقد قابل العراقيون تلك التصريحات غير المسؤولة باستهجان وازدراء، وجعلوها عناوين بارزة لصحفهم، ووقفوا عندها محللين اياها، ومقلبين لها على اوجهها المختلفة وما تحمل من معاني التطرف والتحريض على الكراهية وترويع المجتمع العراقي الذي يتهيأ للدخول الى مرحلة جديدة، يفترض ان تسود المحبة والتآزر والتآلف على العلاقات بين الافراد والجماعات المختلفة لتناسي جراحات الماضي والنهوض بالوطن في جو ديمقراطي نزيه. . ولم يقتصر هذا الازدراء وذلك الاستهجان على وسائل الاعلام، المكتوبة منها على وجه الخصوص، بل تعدى ذلك، وبلغ اوجها لدى المواطنين، ومن جميع المستويات، وبلغة يغلب عليها الغضب العارم، حتى انها تضمنت كلمات اساءة لشخص مسعود البارزاني، وتشبيهات له بالطاغية في حركاته وسكناته، والطريقة التي كان يستخف بها بارادة العراقيين وعقولهم، بل ان تصريحات البارزاني قد اساءت الى القضية الكردية اساءةً ان عرف مسعود البارزاني نفسه بعض جوانبها، لسارع الى تصريح يتراجع فيه عن كل ما قاله، ولاسيما فيما يتعلق بكركوك. . فهؤلاء زملائي، وقد سمعوا تصريحاته، يراجعون انفسهم ومواقفهم من القضية الكردية، ويرجحون ان تكون لبعض الاحزاب الكردية وميليشياتها دوراً في الانفلات الامني والاداري بغية تمرير مؤامرة اضعاف بنية العراق لاقتحام كركوك والاستيلاء عليها. ويتساءلون عما تركه هذه التصريحات النارية للعقل والحوار من فرصة للتفاهم على قضية كركوك. ويعلنون عن حبهم لهذه المدينة، وكأنها تمثل كل الوطن، لا من خلال استرجاع ذكرياتهم معها، هذه المرة، وانما من خلال استعدادهم للذهاب متطوعين للدفاع عنها. انه غضب مشروع، ولاشك، لتصريحات غير مسؤولة. .