تجشم الرئيس جورج دبليو بوش عناء كثيرا في تقديم سياسته تجاه العراق للشعب الأميركي والعالم، واستخدم عبارة «الاسترتيجة الواضحة»، وهو وصف جعل النخب الأميركية تتساءل: هل كان الرئيس مقنعا؟ واعترف بأن نفس السؤال قد لاحقني كثيرا، وفي الاجابة عليه أقول:
لا. . لم يكن الرئيس مقنعا، لأن كل الذي فعله هو إعادة لبانة أفكار ظل يلوكها وطالما سمعناها. وبالنسبة لي فإن تلك الاستراتيجية غير العملية في أصلها قد تغيرت، بمعنى أن سلطة الائتلاف المؤقت ومعها الاحتلال سيسلمون السلطة مباشرة الى العراقيين من دون فترة انتقالية تقوم فيها الأمم المتحدة بالتعاطي الجدي مع الأمور، ومن أسف أن الوقت قد فات على تحقيق ذلك الهدف، ولكن ذلك الهدف، أعني دخول الأمم المتحدة كطرف أصيل، يبقى بمثابة الحلقة المفقودة في هذا الأمر. وأقول ذلك وبالتشديد عليه، من واقع ما علمتنا التجارب في مناطق أخرى، آخرها البلقان.
ولكن كل ذلك يبقي على السؤال المتعلق بقابلية استرايجية الرئيس بوش على إقناعنا، دعك عن أسئلة فرعية يمليها واقع التعقيدات في العراق فيما يتعلق بشكل وماهية الوجود الدبلوماسي الأميركي ومنها: من لتلك المهمة؟ وماذا وكيف سيعمل؟ وهل سيكون مقبولا للعراقيين؟
والى ذلك تحدث بوش كثيرا عن تدريب جيش عراقي لتحقيق الأمن، ومن أسف أن حديثه هنا، ومن الناحيتين النظرية والعملية، لم لم يكن هو ما ظلت تقوم به أميركا طوال الفترة الماضية. لأن السؤال المحوري هنا هو هل سيكون مثل ذلك الجيش جاهزا بحلول 30 يونيو؟
وتحدث بوش عن اعادة الاعمار ذاهبا الى أن دولا أخرى قد تعهدت بتقديم عون وأن العراق سيصبح معتمدا على نفسه، فيما تحدث عن دول أخرى ستقوم بارسال قوات، وللأمانة، فنحن لم نشهد دليلا ماديا على ذلك، أضف الى كل ذلك تلميح استراتيجيته لجهة دور قادم للأمم المتحدة، وذلك أمر يثير الشفقة والسخرية معا، لأن هذه الإدارة هي التي ظلت تنفق كل وقتها وجهودها في التقليل من شأن الأمم المتحدة لتعود الآن، وبعد أن تبللت أحذيتها في الوحل العراقي، لتبحث عن المنظمة الدولية. وهنا تكمن المأساة، لأننا وفي سنوات ادارة كلينتون انخرطنا في مسار تقوية الأمم المتحدة. وأثبت هنا أن هذه العودة من إدارة بوش لا تعني مشاركتهم لنا في رؤانا تجاه المنظمة الدولية كما قد يتبادر الى الذهن، فشتان بين الرؤيتين، فنحن كنا نبلور في قوة لأميركا داخل المنظمة الدولية وليس من خارجها. ومن هنا دفعناها لآفاق من النجاح في قوات حفظ السلام مثلا، وأقرأ هنا مهامها الناجحة في مناطق عدة في أفريقيا والبلقان. ولكن هذه الإدارة بدأت ومنذ البداية تتعاطى مع المنظمة الولية وكما لو أنها عبئا، ذلك هو الفرق بيننا.
والشاهد أن هذه المتاهة قد قسمت الموقف الأميركي من مأزق العراق الى معسكرين: معسكر يرى تحديد يوم معلوم للانسحاب من العراق، في مقابل آخر يرى التمكين للوجود بإرسال المزيد من القوات. ومن جانبي فأنا مع العودة للأمم المتحدة وتأهيلها لدور، ولكن وبالطبع، بعد إعادة مصداقية أميركا فيها، وذلك ممكن. ولكن وجه التعقيد في هذه القضية يكمن في أنها تشبه حكاية الدجاجة والبيضة، ولعلي أتفهم هنا زهد المنظمة الدولية في أن تذهب للعراق لمهام متعددة دون ضمانات أمنية. فأيهما. . الأمن أولا. . أم ذهاب الأمم المتحدة لصناعته؟
والى ذلك وعلى صعيد رؤاي حول تحديد يوم معلوم للانسحاب، لا أجد نفسي ميالة لنداء ذلك المعسكر، ولأسباب عديدة لعل أبرزها أننا وفي التاريخ القريب قد حاولنا ذلك مع حالة البوسنة، ولكن الواقع أجبرنا على تغييره لاحقا. ومن الناحية النظرية في علم السياسة فتحديد يوم معلوم للانسحاب، يهب يوما معلوما آخر للخصم أو العدو، لأن ذلك يمكنه من الانحناء قليلا، والإعداد للانقضاض، ومن هنا وما تعلمناه من درس البلقان هو أن يتحدد الاعداد والآليات لتحقيق منظومة من الانجازات المتزامنة، وعلى سبيل المثال، تحويل حقيقي وليس شكليا للسيادة، مع استعدادات للانتخابات، ومن هنا فالقطع بيوم للانسحاب يقترب من توجيه الانسان بندقيته الى رأسه في مكان توجيهها الى عدوه.
ونأتي أخيرا لمأزق الاستراتيجية الآخر المتعلق بتطبيق الديمقراطية في الشرق الأوسط بما يقترب من مفهوم فرضها على تلك الشعوب، واستدعي هنا بدءا مقولة الصحافي البولندي ريزارد كابوزنسكي في مداخلته مع فرانسيس فوكاياما، حول نظرية الأخير المعروفة بنهاية التاريخ، ويقول كابوزنسكي ملخصا تجربة الثورات الفاشلة في القرن العشرين: لن تستطيع أن تفرض عملية سياسية أو اجتماعية قبل مجيء وقتها ونضوج ظرفها، والا منيت بالفشل. وأضيف من جانبي أنني، وعلى صعيد طروحات فوكاياما، لم أفهم يوما أن التاريخ يمكن أن يتوقف لمجرد أن الديمقراطية قد انتشرت، ولا وجود لطريق مختصر (Short cut) للتعامل مع التاريخ لتوصيله الى نهاية. فالديمقراطية ليست «حدثا» وإنما «عملية» وبالتالي لا يمكنك أن تجد لها طريقا قصيرا Short cut للوصول اليها كما في الكومبيوتر. والى ذلك علمتنا تجارب أوروبا الشرقية وأوروبا الوسطى أن ميراث خمسين عاما من الشيوعية يترك آثارا اجتماعية وسياسية تجد معها أن الناس يفضلون أن يأكلوا ويتقاضوا معاشهم على أن يصوتوا. ومع أن الديمقراطية تبدو براقة للنخب والانتلجنسيا، الا أنها لا تقدم أجوبة لاحتياجات كثيرة لدى الناس العاديين، ومن الواضح هنا أنه لا يمكن تحقيق تنمية سياسية من غير تنمية اقتصادية ليصبح الخيار أن عليك أن تأخذهما معا في الحسبان. ومن هنا فالديمقراطية لا بد أن تأتي في ميقاتها، إنها ليست «الانتخابات» ولكنها في وجود «البرنامج الاجتماعي» للطبقة الوسطى والمؤسسات الفاعلة وتراكم بنائهما على مر الزمن. ولن يكون بالوسع قطعا ايجاد ذلك الطريق المختصر Short cut وصولا اليها، وتلك أيضا إحدى مناطق استراتيجية بوش كثيرة الضباب، فعن أي وضوح يتحدث إذن؟
*المقال مأخوذ من مقابلة اجراها معها ناثان غاردنر ـ رئيس تحرير خدمة «غلوبال فيو بوينت»