دور الملا البرزاني فى مجزرة كركوك - ٣٥
شهادة الشهود والوثائق الرسميه العراقيه
ظل السؤال حول مسئولية إرتكاب المجزره الرهيبه بحق التركمان يطرح نفسه بإستمرار .. من الذي قتل التركمان المسالمين في كركوك وقام بسحلهم والتمثيل بجثثهم بهذه الطريقه البشعه وتعليقهم عراه رجالا ونساء على أعمدة الإناره وفروع الأشجار دون أدنى مراعاه للمبادىء والأعراف والحرمات ؟ هل هو عبد الكريم قاسم ؟ هل هم الأكراد ؟ هل هم الشيوعيون ؟ ورغم مرور أكثر من أربعين عاما على المجزره ظل هذا السؤال يطرح نفسه بإلحاح وسط خلاف وتناحر شديد وتضارب فى إعطاء الإجابه عليه ، وظل القاسميون يدافعون عن زعيمهم الذي شهد عهده أفظع مجزرتين فى تاريخ العراق المعاصر .. الموصل وكركوك .. مؤكدين على أن الزعيم كان إنسانا بمعنى الكلمه وأن أكثر ماكان يميزه عن حكام العراق السابقين واللاحقين هو إنسانيته وأنه ماكان له أن يتورط فى هذا العمل الشنيع الذي تنأى عن إرتكابه وحوش البريه ، وقرر الشيوعيون أيضا بأنهم لاناقة لهم ولا جمل فى هذا النزاع وأن أجهزة الإعلام الغربيه هي التى عملت على خلق دور للشيوعيين فى مجزرتي الموصل وبغداد بسبب الخلاف الأيديولوجي والصراع مع السوفييت زمن الحرب البارده وأنهم لامصلحة لهم فى قتل التركمان ، وسعى الأكراد أيضا لنفى الإتهام عن انفسهم أو على الأقل للدعوه لطي هذا الملف وعدم الخوض فيه أو البحث عن المسئول تجنبا لخلق العداوات وإثارة الحزازات وتقليب المواجع ، وإذا كان " حنا بطاطو " قد ألقى بمسئولية المجزره على صعاليك الملائيه الأكراد بإعتبار أنهم هم الوحيدين أصحاب المصلحه فى قتل وترويع التركمان وخلق الفتنه فى كركوك وإثارة القلاقل بسبب ما أسماه " بنزاعهم التاريخي القاتل مع التركمان " حول كركوك وأن الشيوعيين لم يكن لهم إلا دورا معاونا للأكراد بحكم التحالف لا المصلحه المباشره ، فإن الدكتور أيوب البزاز وهو كاتب وباحث تركماني عراقي وناشط في مجال حقوق الإنسان وعاصر في طفولته فى كركوك جانبا من أحداث تلك المجزره الرهيبه له رأي آخر يميل إلى تحميل الأطراف الثلاث مسئولية المجزره إذ يقول :-
" أن عبد الكريم قاسم هو الذي أعاد مصطقى البرزاني من منفاه في الأتحاد الوفيتي ليثير القضية الكردية من جديد وهو الذي فجـّر الخلافات العقائـدية والمذهبية والعرقية في العراق بين الأكراد والتركمان حيث لم تكن بين القوميتين أية مشاكل طافية على السطح أبدا، وهو الذي أتاح الفرصة للشيوعيين العبث في أمن المواطنين لا سيما من يحملون في داخلهم أحقادا قديمة. هذه الفئة الضالـّة والتي أستطاعت بذر الأحقاد وأيجاد طرق حديثة في القتل والسحـل والتي جرت تحت عين وبصر عبد الكريم قاسم الذي تجاهل جميع الشكاوي الشخصية والمذكرات الرسمية التي قد ّمت له وكأنه في سبات دائم، في الوقت الذي أستمرت هذه الفلول تهد ّد وتقتل بأساليب جديدة الغرض الأساس منها كان لأشاعة روح التفرقة والبلبلة لكي يسهل عليهم الصعود الى دفة الحكم.
لقد أثبت التأريخ بأن هذه المجازر لم تكن لتحصل لولا وجود قوى شرّيرة غير مكشوفة درّبت عناصر الشر على أساليب الفتك والقتل وزودتهم بالأسلحة وأدوات التخريب لغرض القتل وعدم الأكتفاء بذلك بل التمثيل والسحل ونشر الرعب والخوف دون الأهتمام بالقوانين الرسمية وبالأعراف والتقاليد الذين مالبثوا وان روّعوا البلاد بهذه المواقف أبتداء بالطعن بالتشريعات والقوانين وأهانة الدين والرسول والمقدسات الأسلامية وأنتهاءا بالمجازر الدموية وتوسيع الهوة بين أبناء الوطن الواحد وأنتهاء . وكما ذكرت في الجزء الأول من موضوع هذا المقال فأن من بين أعضاء لجانهم المركزية اليهود والسوريين والسوفييت كذلك.
وبعد أحداث مجازر الموصل في آذار ١۹٥۹ والتي راح ضحيتها المئات من الأبرياء لم تتوقف أعمال التهديد والوعيد من قبل المقاومة الشعبية التي كانت بمثابة الجيش الغير النظامي (وأكثرهم من الشيوعيين) الذي كان يستخدمه عبد الكريم قاسم في القضاء على منافسيه وسحقهم عند الحاجة لتنهش وتقتل وتسحل وهو قابع في مكتبه مزهوا بميدالياته ومستمر في أنتهاكاته وجرائمه بحق الشعب..
جأء الشيوعيون الى كركوك بحجة الأحتفال بذكرى كاور باغي وبقوا فيها وأخذوا في البحث عن حجة لكي يبدوءا بتنفيذ مخططهم. ففتشوا البيوت الآمنة لغرض أيجاد أي دليل فلم يجدوا فيها أي سلاح سوى سكاكين المطبخ. ثم أستفزوا الأهالى الآمنين بحجة حماية مكتسبات الزعيم غير أن الأهالي تحلـوّا بالصبر. كان أهالي كركوك على علم بأن مجزرة ما ستحدث وأخبروا المسئولين بذلك الاّ أن كل شيء كان مدبـّرا وكانت الخطة محكمة وبكامل علم قاسم.
وحين قرر أهالي كركوك الأحتفال بالذكرى الأولى لثورة ١٤ تموز وساروا بمسيرات جماعية تهتف للثورة الا أن هذه المسيرات جوبهت مساءا بمسيرات أستفزازية هدفها هو جـر أهالي كركوك الى صراع مباشر. فتم الهجوم على كازينو ۱٤ تموز وقتلوا صاحبها وسحلوه وهم يهتفون "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة" بنفس اسلوب ونفس طريقة القتل ونفس الشعارات ( وأتبعوا نفس طريقة مجازر الموصل).
واستمرت حملات القتـل والسحل ورحل الشهيد تلو الشهيد وهم يسحلون بدون ذنب ويقطعون الى قسمين بواسطة سيارتين وشهداء علـّقوا على الأشجار وأعمدة الكهرباء بعد أن جردوهم من ملابسهم للامعان بالأهانة بالجثث وآخرين قطـّعوا بالحراب والسكاكين ونكلـّت بهم أبشع تنكيل. وفي أرشيف لجنة الد فاع عن تركمان العراق صور عديدة لهؤلاء الشهداء وهم بهذه الأوضاع المأسوية التي لايقوم بها سوى الذين عاشوا حياتهم مع الضباع والحيوانات المفترسة في الغابات. وثم نهبوا البيوت والمخازن التجارية في كركوك وهتكوا الأعراض وعاثوا فيها الفساد والرعب وتحوّلت كركوك الى مجزرة بشرية بكل معنى الكلمة..
وكان ضمن هؤلاء الجزارين الشيوعيين بعض الأكراد والتلكيف (الدليل من أسمائهم) أضافة الى اآخرين الذين جاءوا من هنا وهناك من العراق و الذين تم اما تصفيتهم فيما بعد بأيدي الأبطال التركمان أو تم تنفيذ الأعدام بهم وتعليقهم في ثلاثة ساحات في كركوك أيام حكم عبد السلام عارف سنة ۱٩٦٣ وهي حديقة المصلّى ( وهم عشرة ) وبداية ساحة الأستقلال أمام القشلة (عشرة آخرين) وتسعة في ساحة سوق القورية. وتأخذني ذاكرة طفولتي في كركوك الى هذه المشاهد وأهالي الشهداء ضحايا مجازر تموز ۱٩٥٩ حاضرون و الناس ينظرون الى جثث الجلاّدين المعلقة وأسماء المجرمين مكتوبة على صدورهم أضافة الى نداءات المذيع بمكبرّات الصوت والناس تذكر قول الله سبحانه "اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم ان الله سريع الحساب" صدق الله العظيم ( سورة غافر الآية ١٧).
وكان عبد الكريم قاسم يتابع ما يجري في كركوك من مذابح دموية وسفك لدماء الأبرياء أستمرت لعدة أيام فلم يتدخل لوقفها. الاّ أنه بعد مجازر كركوك كان لابد له من أن يعلن براءته من ذلك –كعادته - بالرغم من توجيه أصابع الأتهام اليه لكونه المسئول الأوحد عن ذلك. وكان من عادة عبد الكريم قاسم في الحكم أن يعطي الضوء الأخضر ثم ينسحب تاركا الآراء والأقاويل كلها في تضارب من أجل تبرءة نفسه والأنفلات من المسؤولية. وقد كان بأمكانه أن يوقـّف هذه المجازر بنفس اليوم غير أنه أراد لها أن تحدث بسبب سياسته الرعناء.
ومن مصائب القدرأخرج يوم ٢۹ تموز ۱٩٥٩ صور المجزرة وأعطاها للصحفيين وعلـّق عليها قائلا " أن ذالك لم يحدث في عهد هولاكو". وتناسى أن كل ذلك حصل في عهده الذي تميـّز بأسوأ من عهد هولاكو ولم يدرك بأنه ينتقد نفسه بنفسه و يهينها بدون وعي. وقد وصفه السياسيون بأنه عجز عن تسيير دفة الأمور في البلد واللامبالات ولم يقم أعتبارا للصداقات ولا للعلاقات الشخصية أية أهمية. فكان يعيـّن من يشاء ويسجن من يشاء ولا يهتم بالمنطق والأستقرار انما يحكم حسب أهوائه وكان عناده وحبه لشخصه سببا في نفرة رجال الثورة منه وتقرب الأنتهازيين والمنافقين له. وكان لايتورع في تحطيم المقابل اذا كان له رأي مخالف ويستخدم كل السبل الغير الشريفة كتوجيه تهم باطلة لهم كما فعل بكل من رشيد عالي الكيلاني و عبد السلام عارف. ولكونه كان قليل القراءة لذا كان يفتقر الى مقوّمات العمل السياسي والدبلوماسي وكان كثير الشطحات في خطبه الأرتجالية البليدة.
وبعد مجازر كل من الموصل وكركوك التي أرتكبها أزلامه في السنة الأولى من حكمه أزدادت جرائم قاسم بحق الشعب العراقي بأمتداد فترة حكمه التي لم تتجاوز ٤ سنوات ونصف وبقي أخيرا وحده وهرب المنافقون - كالعادة – حين دقّـت ساعة الحساب وواجه مصـيره وحده هو أزلامه مثل المجرم العقيد فاضل عبـّاس المهداوي الى أن تم يوم ٨ شباط (ثورة ١٤ رمضان ١۹٦٣) تصفيته وأنهاء صفحة دامية من تأريخ العراق.
حيث أن من سنن الله سبحانه وتعالى أن للباطل جولة وللحق جولات، والحق هو الذي يتغلب في النهاية " .
( وردت هذه الشهاده فى مقال للكاتب المذكور تحت عنوان : مجازر كركوك ١٩٥٩ ... لماذا؟
منشور بتاريخ ٢٧/ ٢/ ٢٠٠٤)
وللحديث بقيه