من بديهيات علم السياسة ان المعلومات الخاطئة والمضللة تؤدي الى اتخاذ قرارات خاطئة وبالنتيجة فشلها الحتمي عند التطبيق. عندما اتخذت الولايات المتحدة الامريكية قرار غزوواحتلال واسقاط النظام في العراق، كانت تعلم علم اليقين بانها تسوق ادعاءات مضللة وخادعة وكاذبة، لأنها أستندت أساسا الى معلومات غير صحيحة وملفقة، أستقتها من جهات وأشخاص وأطراف لاتهمها شيء سوى تحقيق اهدافها ومصالحها الذاتية وليس مصالح أمريكا أو مصالح الشعب العراقي.
نفذت الولايات المتحدة قرارها وأحتلت العراق وأسقطت نظامه الدكتاتوري. وحصل ماحصل أبتداءا من ١۹/٣/٢٠٠٣ ولغاية احتلال بغداد الحبيبة في ٩/٤/٢٠٠٣. في حرب عدوانية خاطفة تعد من أكثر حروب التاريخ اثارة للجدل .
بعد انقشاع غبار الحرب، وتناثر اشلاء الشهداء المدنيين العراقيين العزل والعسكريين الذين زجوا في عملية انتحار مأساوية، وبعد أن هدأت النفوس وأختفى صدام حسين ونظامه في ليلة سوداء، وسقطت معه جميع الذرائع، تبين للعالم أجمع حجم التضليل والافتراء التي مارستها أمريكا وحليفتها بريطانيا لخداع الرأي العام الامريكي والبريطاني والعالمي .
لانريد في هذا المقال أن نناقش أو ندحض المزاعم التي استند عليها القرار الامريكي – البريطاني لغزو العراق، لأن الشرفاء من السياسين والكتاب ووسائل الاعلام المنصفة وغير المنصفة فضحت وعرًت تلك الادعاءات والاكاذيب والمبررات الواهية التي لم تصمد أمام الحقيقة ساعات قليلة، ففي الولايات المتحدة وبريطانيا نفسها، لم تتردد الشخصيات السياسية والاعلامية مطلقا بنعت الادارة الامريكية والحكومة البريطانية بالكذب وخداع الراي العام وتضليلها، ولايهمنا بعد ذلك، نعيق من نعق أو تغريد من غرد من مثقفينا العرب المنبطحين، ولانحتاج الى حجج اضافية لدحض تلك المزاعم، ولكننا نود أن نعلم كيف أقتنعت الادارة الامريكية والحكومة البريطانية بالمعلومات المضللة التي قدمتها لها الجهات والشخصيات العراقية وغير العراقية، استخباراتية أو أعلامية، لأن الجميع يعرف أن مطابخ صنع القرارات السياسية، وخاصة قرارا من هذا الحجم الخطير والمصيري لايعتمد على معلومات على علاتها من دون تمحيص وتدقيق، ومن دون استثمار الوسائل التكنولوجية والعلمية والبشرية المتوفرة لديهما لفرز الغث من السمين. لأن أي خطأ في الحسابات سيؤدي الى كارثة حقيقية، وهذا ماحصل ويحصل منذ نحر بغداد. على اية حال فان أمريكا نفذت ما ارادت وشنت حربا عدوانية غير مبررة وغير أخلاقية وغير شرعية ومخالفة للقانون الدولي، وأحتلت بلدا من أعرق بلدان الارض، وتحاول الان تدجين واحدا من أشرس شعوب الارض وأكثرها مزاجية وتقلبا وتريد تجنيد خمسة وعشرين مليون عراقي ليكونوا مخبرين وعملاء لديها، فوقعت في المستنقع العراقي، وياله من مستنقع!!!!
الغريب في الامر، هو اصرار أمريكا على التمسك بالذين ورطوها وأوقعوها في هذا المستنقع، فاذا كانوا من أصدقائها، فهذا الفعل ليس من شيمة الاصدقاء، وانما من شيمة الانتهازيين، أما اذا كانوا اعداء لها، فيجب التخلص منهم، لكنه يبدوا أن امريكا لم تسمع بالمثل العربي (اللهم احفظني من أصدقائي فأما أعدائي فأنا كفيل بهم)، و هل تسمع أمريكا؟ أم في أذانها وقر؟.
المستنقع العراقي بدأ يبتلع الامريكان وحلفائها المرتزقة معا . جنود أمريكا في العراق مرعوبة، تطلق النار حتى على ظلها . المسؤولون الامريكان في حيرة من أمرهم. السيد بول وولفوتز يزور العراق ويعود الى واشنطن مخروعا وفاقدا من وزنه خمسة كيلوغرامات. السيد بول بريمر يقفز الى واشنطن كل يومين أوثلاثة، لسان حاله يقول أنقذوني من هذه الورطة. نصف أعضاء مجلس الحكم الانتقالي في (سياحة سياسية) خارج العراق خوفا من الاغتيال والنصف الاخر مشغول في البزنز في الاقبية المحصنة والحراس الشخصيين من النيبال!!. الدستور أصبح في خبر كان، وربما سيقبل العراقيون في نهاية الامر بدستور مؤقت مهلهل وأمرهم لله الواحد القهار!!! ثلاثون جندي امريكي يذهبون في اجازة الى بلادهم ولايعودون (يفرون من الخدمة). سائق دبابة أمريكية، من شدة هلعه يوم قصف فندق الرشيد يسحق ويثرم سيارة بمن فيها (الاب والام وطفلين) . الحاكم المدني الامريكي يحل الجيش العراقي ثم يتراجع وينوي اعادة النظيفين منهم الى الجيش الجديد. يطاردون رجال الامن والمخابرات السابقين ثم يتوسلون اليهم بالعودة للعمل لمساعدتهم في استتاب الامن. يلقونون رجال الشرطة العراقية دروسا في الديموقراطية ثم يطلبون منهم القاء القبض على الصحفيين!! يأمرون برفع صور الرئيس السابق من الكتب المدرسية ثم يأمرون الطلاب بلصق العلم الامريكي على حقائبهم الدراسية!! طائرا الشينوك والاباتشي وبلاك هوك تتساقط كالفراشات!!! المحللون السياسيون يقولون ان العراق ليس بفيتنام والاخرون يقولون بل انه أخطر من فيتنام، والانباء من بغداد تقول ان رائحة فيتنام تزكم الانوف في العراق، شعبية الرئيس بوش تتدنى باستمرار. التكاليف تتصاعد بارقام فلكية. عدد القتلى الامريكان وحدهم منذ بداية العدوان جاوز ٤٤٠ قتيلا بالاضافة الى قتلى البريطانيين والبولنديين والاسبان وأخيرا الايطاليين والمئات من الجرحى. عدد شهداء العراق من المدنيين جاوز (٢٥) الفا وعدد المصابين بالجروح أكثر من (٤٠) الفا أغلبهم من النساء والشيوخ والاطفال الابرياء لاناقة لهم في هذه الحرب ولاجمل، أما الشهداء من العسكريين العراقيين ألله وحده يعلم عددهم. جاوز عدد المعتقلين من ابناء الشعب العراقي (٣٠) الفا. الطائرات والدبابات والمدفعية الثقيلة والصواريخ أستأنفت قصف الاحياء السكنية في بغداد والصلاح الدين والموصل وكأن الحرب في بدايتها!!!. يعلن بول بريمر خبره السعيد عزم حكومته بنقل السلطة للعراقيين، بعد أن وقع على الامر مجلس الحكم الانتقالى دون أن يقرأ أحدا منهم الامر، بعد أن ترجموا الفرمان الى اللغة العربية أنبرى السادة رجال الدين الشيعة بالاعتراض وتسجيل تحفظاتهم عليه، وأخيرا رئيس أعظم قوة عسكرية وسياسية وأقتصادية في العالم يذهب سرا تحت جنح الظلام والتعتيم الشامل الى بغداد ومن دون علم أقرب مستشاريه و المقربين منه، ليشارك جنوده وليمة أكل الديك الرومي (الذي نسميه في العراق فسيفـس أو على شيش) في عيد الشكر، ويقفل راجعا في ختام أقصر زيارة يقوم بها رئيس دولة تحت جنح الظلام لربوع بلاد الرافدين. هذا هو المشهد في العراق هذه الايام وباختصار شديد، عدنا الى المربع الاول! ما العمل بعد أن وقع الفأس برأس أمريكا، وتورطت أو ورطوها؟ فمن يرمي لها حبل النجاة قبل أن تغرق في هذا المستنقع الذي لاقرار له؟
وقبل ان ندخل في التفاصيل، نقول : نعم نتفق مع الرأي القائل، ان العراق ليس بفيتنام، وأن مستنقعه ليس بمستنقعها، والسبب هو أختلاف الزمان والمكان والرجال، العراق لايمكن أن يكون فيتناما، لأن العراق لايمكن ألا أن يكون عراقا،لأنه نسيج وحده، بل يمكن أن يكون أسوأ من فيتنام اذا لم تتدارك امريكا الوضع وتعيد حساباتها وأستراتيجيتها جملة وتفصيلا. يقول ايرنست ماي، استاذ التاريخ في جامعة هارفرد، أن العراق يذكر بالايام الاولى لحرب فيتنام بشكل مخيف. أما الخبير العسكري في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، انتوني كوردسمان كتب يقول (انه مالم يتغير هذا الوضع بسرعة وبصورة جذرية، فان الولايات المتحدة قد ينتهي بها الامر وهي تواجه خوض حرب خليج ثالثة في العراق....وانه ليس من الواضح اذا ما كان في مقدور الولايات المتحدة الانتصار في هذا النوع من الحروب غير المتكافئة). المسؤولون الامريكان لايستطيعون تغيير الوضع بصورة جذرية وبسرعة ما لم يستوعبوا، اولا وقبل كل شيء، العقلية العراقية ويدرسوا اسباب المقاومة بهذه البسالة والعنفوان وتصاعد، ولماذا انفجرالشعب العراقي بوجه قوات الاحتلال بالرغم من انه شعب صبور الى حد الازعاج ويتحمل الالام الى حد القرف، ألم يصبر على ظلم واستبداد صدام حسين (٣٥) عاما؟
بعد سرد هذه الحقائق التي ربما هي غير خافية على المسؤولين الامريكان نعود ونقول أن امريكا تستطيع ان تفعل الكثير دون ان تفقد ماء وجهها أوحصول أي خدش في هيبتها، ان الاخذ العزة بالاثم لاتجدي نفعا، وتشويه الحقائق أو طمسها لاتخدم امريكا، واستخدام سياسة النعامة ستورط امريكا أكثر فأكثر، والتضليل الاعلامي سيزيد من مأزقها والاصرار على التحدي يغرقها في المستنقع أكثر فأكثر، فمن ينقذ أمريكا من هذه الورطة؟ فقبل أن نجيب على هذا السؤال، حري بنا أن نقر بان هيبة أمريكا في المحك، فلايمكن للقوة العظمى الاولى في العالم ان تفقد هيبتها بسبب العراق ومن أجل العراق!!. هل سيصر الرئيس جورج بوش على سياسته الحالية غير الحكيمة ولا يبحث عن مخرج لمأزقه ويخسر الفترة الثانية من ولايته ويعيد مأساة أبيه؟. أمريكا ورئيسها في وضع حرج لايحسدان عليه. ومع هذا فاننا نعتقد بان الادارة الامريكية الحالية ستصر على سياستها وموقفها وممارساتها لتنفيذ مخططاتها في العراق، لأن الهدف الاساسي من العدوان، أبعد من العراق ومن ثروات العراق، فالسذج وحدهم يؤمنون ان أمريكا جيشت الجيوش ورمت بأبنائها في أتون حرب قذرة وأنفقت ومازالت تنفق عشرات أو مئات المليارات من الدولارات، كل ذلك من أجل نفط العراق أو من أجل سواد عيون العراقيين أو من أجل أرضه الصبخة المالحة؟! انها من أجل شيء أكبر بكثير من العراق ومن نفط العراق وتمر العراق!!!
وقبل أن تنزلق أمريكا الى قاع المستنقع أكثر فأكثر، ينبغي أن تضع في حساباتها الحقائق الاتية:-
- ان أية قوة عسكرية، سواء كانت من دول الجوار أو من الدول العربية أو الاسلامية أو من امريكا اللاتنية أو من أوربا أو أية قوة تحت علم الامم المتحدة في هذه المرحلة، سيعتبرها العراقيون قوة أحتلال مهما كانت صفاتها ومسمياتها وأغطيتها، ومهما كانت نياتها حسنة أو سيئة،
- أن توريط الامم المتحدة، بكل مالها وما عليها من ملاحظات، بجعلها جزءا من الاحتلال وتحت مسميات حفظ السلام، ستدمر البقية الباقية من مصداقية هذه المنظمة.
- أن تعيين مجلس جديد للحكم وتحت أية مسميات أو تعيين شخصية سياسية كرئيس مؤقت للدولة، من قبل الامريكان، سيزيد الوضع تعقيدا ولايساهم في الحل، لأن الشعب العراقي يعتبرهم غير شرعيين ولايكون حالهم أفضل من حال مجلس الحكم الانتقالي الذي أثبت فشله بجدارة يحسدون عليها.
- ينبغي على أمريكا أن تستمع الى نصائح فرنسا والمانيا وروسيا ووجهة نظرها في الشأن العراقي، لأن تحليلاتها سواء قبل الحرب أو بعدها، صائبة تنطلق من نظرة استراتيجية تستند على معرفة عميقة بالمنطقة وتكويناتها وصراعاتها، أن في صفحات التاريخ دروسا يجب على أمريكا اعادة قرائتها واستيعاب مضامينها.
- من أجل أستتاب الوضع في العراق، يجب على الشعب العراقي ان يشارك مشاركة فعلية في انتخاب من يمثله، فعلى الامم المتحدة أجراء استفتاء عام في العراق وبمشاركة جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي والاتحاد الاوروبي. لأنتخاب ممثليه ونوع نظام الحكم الذي يرغب وعلى اساس المواطنة العراقية الواحدة وليس على الاسس الطائفية والقومية والعرقية. وبعد الانتخابات مباشرة تضع الامم المتحدة جدولا زمنيا لاتتعدى ستة أشهر لآنسحاب القوات المحتلة من العراق كافة مع أحتفاظها بماء وجهها وكرامتها وهيبتها.
- خلال عملية الانسحاب تتمركز قوات حفظ السلام، (من الدول غير المشتركة في الاحتلال ولا من دول الجوار). تحت علم الامم المتحدة ولمدة ستة أشهر فقط.. وتقوم الامم المتحدة بتسليم السلطة الى العراقيين. و في ضوء نتائج الانتخابات تشكل حكومة عراقية وطنية وشرعية تعترف بها الامم المتحدة فورا تتبعها بقية دول العالم. وتنسحب قوات الامم المتحدة بعد ستة أشهر من تسلم الحكومة الشرعية المنتخبة سلطاتها الدستورية.
وتجدر الاشارة الى ان وضع الامم المتحدة هنا يختلف كليا عن وضعها وفق القرار ١٥١١ لأن ارسالها لقوات حفظ السلام تحت القيادة الامريكية الحالية تعتبر قوات احتلال وليس قوات حفظ السلام.
والكلمة الاخيرة التي نود ان نقولها بصراحة للسيد الرئيس جورج بوش هو : لاأحد يستطيع مساعدة أمريكا وانقاذها من المستنقع العراقي سوى أمريكا نفسها. وأنت يالسيد الرئيس، رئيس تمتلك قدرة أتخاذ قرار استراتيجي شجاع يقضي بالانسحاب من العراق وانهاء أحتلاله وتسليم الامور الى الامم المتحدة، وسيكتب لك التاريخ هذا القرار بكلمات من ذهب، ولاتصدق مايقوله أصدقائك وأعدائك من العرب والمسلمين وغيرهم أمامك أو من وراء ظهرك، فان الجميع، عندما يشاهدون تفاقم مأزقك ومأزق أمريكا في العراق، يقولون في سرهم وهم يبتسمون ((حيل بيها)).